من حرب على سورية إلى حروب على روسيا
معن بشّور
حين أعلنت روسيا والصين للمرة الأولى الفيتو المزدوج على مشروع قرار في مجلس الأمن ضد سورية، حمله آنذاك رئيس الوزراء القطري السابق وأمين عام جامعة الدول العربية، لم تكن القيادة السورية حينها على علم بنية موسكو وبكين اتخاذ ذلك القرار التاريخي، ولم تكن تلك القيادة السورية قد طلبت من العاصمتين الكبيرتين ذلك، بحسب ما قال الرئيس بشار الأسد لوفد «لجنة المبادرة الشعبية العربية لمناهضة التدخل الخارجي ودعم الحوار والإصلاح في سورية» قبل ثلاثة أعوام.
كان واضحاً يومها أن الدولتين الصاعدتين في رحاب العلاقات الدولية، والمرشحتين لمشاركة «القطب الأحادي» الأميركي قيادة عالم أكثر عدلاً وأكثر توازناً، لم تضعا ذلك الفيتو حرصاً على سورية ودورها ووحدتها ومجتمعها وجيشها فحسب، ولا حتى تمسكاً فقط بمبادئ القانون الدولي الذي يرفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في مجلس الأمن، بل كان كذلك، وهذا هو الأهم، نتيجة استشعار مبكر أن الحرب على سورية وفيها، هي تنفيذ لأجندة أميركية «إسرائيلية» استغلت من دون شك مطالب مشروعة لشرائح من المجتمع السوري بهدف تدمير وطن كان دوماً مقاوماً لمخططاتهما وعقبة في وجه مشاريعهما، بل تدمير دولة شكلت أحد مرتكزات الاستقلال الوطني ورفضت الهيمنة الاستعمارية والتبعية للنفوذ الأجنبي، وبالتالي فهي مقدمة لحروب أوسع وأخطر تشمل المنطقة والعالم.
كانت كل من موسكو وبكين تدركان أن الحرب في سورية وعليها هي في العمق حرب عالمية تستهدف كل دولة خارجة أو تسعى للخروج من فلك الإذعان للإرادة الأميركية، تماماً كما كانت طهران تعتقد أيضاً أن تلك الحرب هي حرب إقليمية تريد عبر تحطيم سورية أن تحقق ما عجزت عنه في لبنان عام 2006 وفي غزة عام 2008- 2009، ثم في إيران نفسها عبر تظاهرات صيف 2010 اثر إعادة انتخاب الرئيس الإيراني السابق احمدي نجاد لولاية ثانية.
من هنا لم يكن الفيتو المزدوج لأول مرة، الروسي الصيني، والمتكرر لعدة مرات مفاجئا ًفي العمق للمتابعين بدقة لحركة الصراع الدولي بين قوى كبرى متراجعة وقوى أخرى ناهضة، وإن كان كثيرون وقعوا أسر تفكيرهم الرغبوي معتقدين أن موسكو ستتراجع كعادتها في أزمات سابقة، وأن الصين ما زالت غير مستعدة لصدامات بهذا الحجم مع دولة تمتلك الصين ما قيمته أكثر من ثلاثة آلاف مليار دولار من سندات خزانتها.
وظن كثيرون أن موقف موسكو إزاء الحرب على سورية لن يكون بأفضل من موقفها في حرب الأطلسي على ليبيا، وفي الحرب الثلاثينية على العراق في مطلع 1991، من دون أن يدرك هؤلاء أن موسكو أدركت كم خدعها الغرب حين اتخذ قراراً بفرض حظر جوي على ليبيا تحول بسرعة إلى عدوان متكامل ما زالت ليبيا تدفع ثمنه إلى اليوم، ومن دون أن يدرك هؤلاء أن ضرب العراق عام 1991، وتدمير قدراته وإرسال قوات عسكرية لتتمركز في الخليج الذي أسماه يوماً الإسكندر المقدوني بخليج الشمس الساطعة، كان أحد عوامل التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية من حوله، تماماً مثلما كان انزلاق الاتحاد السوفياتي نحو التفكك أحد العوامل التي مكنت واشنطن من خوض تلك الحرب بنجاح.
ومنذ الانقلاب «النازي» اليميني في أوكرانيا والغرب يدق طبول الحرب على موسكو، خصوصاً بعد أن تبدى له أن كل مراهناته على سقوط سريع لدمشق باءت بالفشل، لكن التجربة الأوكرانية أيضاً لم تحقق لواشنطن، المستعجلة للثأر من موسكو، غايتها، فكانت الاستدارة نحو تخفيض أسعار النفط لإخضاع روسيا المتجددة الصاعدة، تماماً كما الإعلان الصريح عن تحريك مسلحي الشيشان وشمال القوقاز للإجهاز على الاتحاد الروسي، مثلما تم الإجهاز على الاتحاد السوفياتي في أفغانستان على يد المجموعات المتطرفة نفسها، وبتمويل من الدول النفطية ذاتها، من دون الانتباه إلى أن هذه الخطة تفضح سياسة تحالفهم في العراق وسورية، إذ كيف تقوم طائرات هذا التحالف بضرب هذه المجموعات كـ»داعش» وغيره في شمال العراق وشرق سورية، ثم تتحالف استخبارات هذا التحالف معها في قلب الاتحاد الروسي.
مأزق واشنطن وحلفائها في هاتين الاستدارتين النفطية والاستخباراتية، كما في الأزمة الأوكرانية، أنها لا تدرك أن روسيا بوتين هي غير روسيا يلتسن، فالأول قائد النهوض الروسي بعد عقدين من التعثر، والثاني منسق التفكك الروسي برعاية واحتضان غربيين، الأول يستند إلى صحوة قومية عارمة داخل روسيا بعد معاناة أليمة مع محاولات الغرب إذلال أمة كانت دوما ًقائدة لإمبراطورية كبرى سواء حكمها القيصر، أو أمسك بها ستالين.
إن العديد من التقارير والدراسات الواردة من الولايات المتحدة الأميركية تشير إلى الانعكاسات السلبية لتخفيض أسعار النفط على الاقتصاد الأميركي نفسه، كما على أسواق المال والأسهم فيه، ناهيك بأن إغراق العالم بفائض نفطي يفوق طلبه سيؤدي إلى ضرب استثمارات بمليارات الدولارات في إنتاج النفط الصخري والنفط الرملي نتيجة هبوط سعر برميل النفط عن سعر كلفة إنتاجه.
كما لم يعد خافياً على أحد أن روسيا، ومعها إيران طبعاً، هما دولتان تمتلكان قدرة عالية على التكيف مع هذا الانخفاض المريع في سعر النفط بل إنهما تستعدان لمثل هذا التطور منذ سنوات، فيما ظروف الدولة الأميركية التي تعاني أزمة بنيوية في نظامها الاقتصادي والسياسي قد تؤدي إلى ما هو أكثر من الانفجارات الاجتماعية والعنصرية التي تشهدها المدن الأميركية وآخرها مصرع ضابطي شرطة في بروكلين.
وللتدليل على حجم الخسائر التي ستلحق بالاقتصاد الأميركي من جراء هذا التخفيض لا بد من التوقف أمام تحليل شائع لا سيما في الرياض وفي أوساط مقربة من بعض مراكز القرار فيها، بأن تخفيض الأسعار هو قرار سعودي وخليجي بحت يهدف إلى إرباك موسكو وطهران من جهة، كما إلى ضرب قطاع الطاقة البديلة في الولايات المتحدة النفط الصخري والرملي التي باتت تهدد صناعة النفط السعودية والخليجية برمتها.
وبغض النظر عن مدى صحة هذا التحليل، وبغض النظر عما إذا كان تواطؤ بين جهة ما في الرياض «لها صراعاتها وطموحاتها داخل العائلة المالكة» مع جهات ولوبيات في واشنطن «تريد محاصرة أوباما وإسقاط حزبه في الانتخابات الرئاسية القادمة»، فإن المؤكد الوحيد أن خسارة روسيا وإيران وفنزويلا لا تعني أبداً ربح الولايات المتحدة خصوصاً إذا تذكرنا أن أكبر المستفيدين من تخفيض أسعار النفط هي الصين، وهي من أكبر مستوردي النفط في العالم، التي يشكل اقتصادها الاقتصاد الثاني في العالم بعد الاقتصاد الأميركي، والمؤهل لأن يصبح الاقتصاد الأول في العالم خلال الأعوام القليلة المقبلة، إضافة إلى ما تشكله الصين، بحسب الاستراتيجيات الأميركية المعلنة الخطر الأكبر على مصالح الولايات المتحدة الأميركية في قارات عدة، وهو ما استدعى إعلاناً أميركياً قبل أشهر عن خطة لتطويق الصين من عدة جهات، وهي خطة أفشلتها بكين بكفاءة عالية.
تبقى الحرب الثانية على الروبل الروسي، وهي حرب متكاملة مع حرب النفط فعلى رغم أن الروبل استعاد في اليومين الأخيرين بعض قيمته اثر إجراءات نقدية اتخذتها السلطات الروسية إلا أن معلقاً روسيا هو ليف ايغوروفيتش، وفي مدونته وتحت عنوان «ليست روسيا من تشتري قوتها – طعامها- من الولايات المتحدة بل أن الولايات المتحدة هي التي تشتري قوتها من روسيا»، أشار إلى أن تخفيض قيمة الروبل لن تكون له الآثار السلبية التي ضخمها الإعلام التضليلي الغربي، بل ربما تكون له آثار إيجابية كانخفاض حجم الاستيراد الروسي من الغرب وارتفاع الصادرات الروسية إليه
وقال ايغوروفيتش إن واشنطن تشن الحرب الاقتصادية على موسكو فيما أوروبا، وبخاصة ألمانيا، هي التي ستدفع الثمن، مشيراً إلى أن شركة سيارات كبرى كشركة مرسيدس بنز ستقيم مصانع سياراتها في روسيا حيث كلفة الإنتاج ستصبح أقل فيما السوق الروسية هي سوق واسعة. وبالمناسبة أن هذا هو ما تفعله شركات سيارات أخرى فولفو ورينو – نيسان ناهيك عما يمكن أن تدفعه ألمانيا من خسائر فيما لو تراجعت روسيا عن تكليفها بتوزيع الغاز الروسي على أبواب الشتاء في أوروبا.
المحلل ايغوروفيتش أكد أيضاً في مقالته البالغة الأهمية أن انخفاض سعر صرف الروبل سيؤدي إلى زيادة الطلب على السلع الروسية الأمر الذي سيقود الاقتصاد الروسي نحو المزيد من نمو الإنتاج فيما يخفض من ظاهرة «النمط الاستهلاكي» وما يرافقه من فساد بما يعزز من تسلل أو من اختراقات اقتصادية وأمنية وسياسية غربية داخل المجتمع الروسي.
إن مثل هذا التلاعب بسعر صرف الروبل سيعجل أيضاً في عملية التبادل بالعملات الوطنية، أو حتى المقايضة، بين روسيا والصين ودول البريكس وإيران وفنزويلا وغيرها، وهو ما سيترك آثاراً سلبية على وضع الدولار الأميركي الذي يكتسب قوته اليوم من كونه الأداة الوحيدة للعمليات التجارية الدولية.
أما الحرب الثالثة فهي التي أعلن عنها قبل أيام السيد ستروب تالبوت السفير الأميركي السابق في روسيا في عهد يلتسن «بداية التسعينات» والصحافي الأسبق في مجلة نيوزويك، وهي حرب الجماعات المتطرفة في الشيشان وشمال القوقاز، وحدد موعداً لبداياتها مع العام الجديد 2015، متوقعاً أن تلعب هذه المجموعات دوراً في إرباك الاتحاد الروسي وتفكيكه على غرار ما فعله أسلافهم في أفغانستان مع الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي.
تالبوت يطمح أيضاً أن يلعب في روسيا دوراً لعبه في العراق زميلان له هما بريمر مهندس المحاصصة الطائفية ونغروبونتي مهندس الحروب الأهلية الذي جاء إلى بغداد خصيصاً ليصمم فتنة عراقية – عراقية مستديمة ثم يغادر، كما لعبه أيضاً في سورية السفير روبرت فورد الذي أغرق إدارته، كما بعض المعارضين السوريين، بسلسلة من الأكاذيب والوعود والذي أثبت في ما بعد فشله المدقع حين كان راعياً للوفد المعارض في جينيف2 ليحال بعدها إلى التقاعد بعد أن خيب أمل إدارته والمراهنين عليه.
تالبوت، الخبير السابق في قضايا الاستخبارات، نسي أن عالم اليوم هو غير عالم الأمس، وأن روسيا الناهضة اليوم هي غير روسيا المنهكة بالأمس، وأن حرب أفغانستان كانت خارج أراضيها فيما الحروب التي تخطط لها واشنطن اليوم هي داخل الدولة الروسية، وأن لروسيا اليوم حلفاء أشداء بدءاً من الصين إلى الهند إلى إيران إلى دول أميركا اللاتينية، وأن دولاً أخرى كباكستان وتركيا ليست في وضع يسمح لها أن تلعب دوراً لعبته في أفغانستان سابقاً، كما أن وعي غالبية المسلمين اليوم لن يسمح بجرهم إلى منزلقات دموية وتدميرية، خصوصاً بعد أن اتضحت لهم مخاطر استغلال مشاعرهم الدينية لإبعادهم عن قبلتهم الجهادية الأولى في القدس وفي مقارعة العدو الصهيوني، كما لإبعادهم عن روح الإسلام الأصيلة وتعاليمه السمحاء بل إلى ممارسات مسيئة للإسلام ومشوهة له.
إن الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، يدرك جيداً أن التمادي بلعبة تغذية الإرهاب والتطرف لا سيما في دولة نصفها أوروبي كروسيا من شأنه أن يوسع مجال هذا التطرف والإرهاب ليغزو دول الأطلسي في عقر داره.
إن كل هذه الحروب على روسيا مصيرها الفشل على الأغلب إلا إذا كان الهدف منها إلحاق الخراب والدمار بالعلاقات الدولية، وهي حروب ستسجل «تاريخ نهاية» حقبة الهيمنة الغربية على العالم لا «نهاية التاريخ» كما توقع يوما ًأبرز كتاب الغرب المعاصرين كفوكوياما ومعه صامويل هانتنغتون وهلل لها في بلادنا «مثقفون علمهم شهادة وطموحهم ثروة ورصيدهم جبانة وفضائحهم رذائل مؤجلة» كما قال يوما المفكر الكبير الراحل منح الصلح.
وكما فشلت حربهم على سورية إلا في نشر الدمار والخراب، فستفشل أيضاً على موسكو التي أدركت، مع بكين وطهران وكراكاس وعواصم أميركا اللاتينية وشعوب العالم الغربي نفسه، أن العالم بات يخوض معركة واحدة جذورها في أرضنا وأغصانها على امتداد الكون.
ولن يكون بعيداً اليوم الذي سيحتفل به مقاومو هذا العدوان الغربي الواسع بعيد النصر كما تحتفل مصر اليوم بعيد النصر في 23 /12/1956 حين هزمت ببطولات أبنائها وأحرار أمتها ومساندة أصدقائها وفي مقدمهم الاتحاد السوفياتي العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي «الإسرائيلي» وأخرجت العالم بأسره من أسر الإمبراطوريتين الاستعماريتين الأكبر آنذاك.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية