بقعة ضوء واقعية
يُحكى أنه راج قديماً بيع الدموع. إذ إن الميت في بلادنا كان يُعرف موقعه الاجتماعي من كمية الحزن في جنازته، والدموع التي ستسكب عند رحيله. وكبار القوم كانوا عادة يستأجرون ندّابات ليلطمن على الميت بالمواويل الحزينة، وكانوا أيضاً يستأجرون بكّاءات. «شغلتها وعملتها أن تبكي على شخص لا تعرفه بالضرورة».
وفي مرحلة متقدّمة من تلك «الموضة» كانت الدموع تُباع، إذ يشتري أهل الميت قوارير صغيرة من دموع النساء، تعرض في تأبين الميت كدلالة على ما جمع من حزن عليه.
والأمر يصبح معقداً أكثر حين ترى ذلك في العلاقات الاجتماعية نفسها، فتكون القاعدة أن علينا أن نعزّي فلاناً ونحزن لوفاة عزيزه، لأن فلاناً زارنا في حزننا وبكى عزيزنا، وهكذا دواليك… يصبح الحزن واجباً، وإذا كان الآن يقف عند حدود الزيارة والعزاء، فقديماً كان الواجب أكبر، إذ عليك أن تبكي أنت وأسرتك في عزاء الرجل الغريب إذا كان أهله قد بكوا في عزائكم!
«ما عَلينا»… تطور الناس كثيراً وتغيرت طباعهم، لم نعد نبكي على من تجبرنا الأسرة بالبكاء عليه، وصرنا نبكي على من تجبرنا نشرة الأخبار أن نبكي عليه، لم نعد نعمل بكّاءات في مجالس البكوات، إنما صرنا نعمل بكّاءات على باب المصرف أو الحزب أو النائب أو مدير الشركة. لقد تطورنا، صعوداً أو نزولاً لا أدري: لم نعد نبيع دموعنا بالقوارير الصغيرة، صرنا نصدّرها بأنابيب النفط وبالصهاريج.
خضر سلامة