خالتي التي ظلمناها

صفية سعاده

جُلنا غَبنها، كل لسبب خاص به. وقعت خالتي ضحية موقع لم تختره بل فُرض عليها فرضاً، فانصاعت لتتغير حياتها وتمشي على درب اختارها القدر لها. درب صعبة وشاقة أين منها الحياة المرفهة التي عاشتها في الأرجنتين.

أتت هذه الغريبة الحلوة الممشوقة القامة بعينيها الليلكيتين الواسعتين لتزور أختها في دمشق. لم تتزوج خالتي ديانا، وفضّلت ممارسة إدارة الأعمال مع شقيقها جورج في بونيس آيرس، عاصمة الأرجنتين حيث قرر والداها الاستقرار إبان الحرب العالمية الأولى.

شبت ديانا في مدينة فائقة الجمال سُميت «باريس أميركا اللاتينية»، وتميزت بطرقاتها العريضة وأبنيتها المتناسقة وكثرة حدائقها وأشجارها الباسقة، ومناخها المعتدل. هذه المدينة الحديثة فتحت المجالات كافة للمرأة وأمنت لها حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا بل كانت سباقة في القارة الأميركية في محاولة تأمين العدالة الاجتماعية للعمال، خصوصاً بعد ثورة بيرون واستيلائه على السلطة وزواجه من امرأة نشأت في بيئة فقيرة. دعمت إيفا بيرون زوجها في إصلاحاته وتحولت إلى أيقونة ومعبودة الجماهير، وقد خلّد فيلم «إيفيتا» صورتها.

لا عجب في أن تتأثر جوليت المير وأخواتها بهذه الأجواء، ولا غرابة في أن ينطلق شي غيفارا نحو العالم حاملاً رسالة مقاومة الظلم والاستعمار، كما حملت والدتي هذه الرؤيا واقترنت بمناضل من بلادها يشاركها الحلم نفسه.

ما إن عاد والدي إلى الوطن، حتى واجها الاضطهاد بأبشع صوره من تنكيل وملاحقة لإصرارهما كما أعضاء الحزب على مواجهة تقسيم «سوراقيا» إرضاء للصهيونية والمطامع الغربية، انتهت باستشهاد والدي.

عام 1954 قدمت خالتي ديانا لزيارتنا في دمشق. لا أزال أذكر أناقتها وهي تهبط من الطائرة، وما إن وصلنا المنزل أخذت أعبث بمحتويات حقائبها، ثيابها الفاخرة، حليها، حذاء الباليه الذي أحضرته معها لعلًها تتابع الرقص. شعرت بالأسى لوضعها فأين لها أن تتابع نشاطات كالرقص ولعب كرة السلة في بلد محافظ ليس من السهولة فيه كسر التقاليد أو حتى تعديلها؟

لم تكن خالتي تعرف كثيراً عن أحوال سوراقيا، إلا أنها سرعان ما لمست حالة الخوف الدائمة من عمل أمني يودي بحياتنا. لم تطل بها الأيام حتى شاهدت أختها تُساق زوراً إلى السجن. هكذا، وبلحظة غادرة انقلبت حياتها رأساً على عقب، زيارتها تحولت إلى سجن مؤبد، لن تعود إلى بيتها وحياتها وعملها، كل ذلك استحال رماداً بين يديها. أمامها ثلاث بنات أكبرهن في بداية مراهقتها، وأصغرهن لا تزال طفلة لا تفقه ما يدور حولها، شقيقتها في السجن، لن تتركها وحيدة ولن تترك طفلاتها الميتمات.

سارعت بإجلائهن إلى بيروت، ولحقت بهن بعد أن يئست من الإفراج عن أختها.

منذ تلك اللحظة وحتى مغادرتها لبنان عام 1971 بعد وصول والدتي إليها، أرغمتنا خالتي على أن نعيش معها حالة رعب دائمة. غريبة هي، لا تعرف أحداً حقاً، ولا تعرف أحوال البلد وتقاليده، كما أنها لا تعرف كيف تقوم بتربية ثلاث فتيات، فهي على رغم جمالها، لم تتحمس للزواج أصلاً، وكانت مكتفية بعملها ومستقلة مادياً لا تحتاج إلى من يعيلها. كانت حياتها في غاية الهدوء، فإذا بزوبعة جارفة تخلع أوتاد استقرارها، وترميها في مهب رياح بلد يخيفها.

تحولت شخصية خالتي المفعمة بالنشاط والحيوية إلى بارانويا تلازمها ليلاً ونهاراً. اعتبرت مهمتها الأساسية عدم وقوع طفلات أختها في الأسر أو الاغتيال. استأجرت منزلاً قرب المدرسة، أغلقت الباب، عاشت وعشنا معها العزلة الكاملة. أمنا في سجن، ونحن في سجن آخر. ممنوعة دعوة زميلات المدرسة أو الذهاب لزيارتهن، ممنوع الخروج من المنزل، ممنوع الجلوس على الشرفة، ممنوع اللعب في مدخل البناء.

تمردت أنا المراهقة على «ممنوعات» خالتي. بالكاد يسعني العالم، أريد أن أكتشفه، أن أفك طلاسمه، فكيف ألازم البيت؟ أعلنتها حرباً شعواء. قلما خلا يوم من مشادة بيني وبينها، أريد أن أحيا حياة طبيعية كبقية زميلاتي لا محتجزة في المنزل، وهي تمنعني من الحياة. الحياة بالنسبة إليها الخطر الأكبر! ماذا تقول لوالدتي إن حصل مكروه لي؟ اعتبرت واجبها الأساس أن تعيدني إلى والدتي كما تركتني. أريد أن أكبر بسرعة وتريد هي أن يقف الزمن، ولا تعاود عقارب الساعة الحراك إلا بعد إطلاق سراح والدتي.

تراكمت هواجس خالتي ومخاوفها وكوابيسها الأكثر سوداوية حين «عفشني» الأمن العام صبيحة الأول من كانون الثاني 1962 بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة للحزب السوري القومي الاجتماعي. يكفي أن أكون ابنة أنطون سعاده لأدخل السجن .

حين أُفرج عني بعد أربعين يوماً، وجدت خالتي في حالة يرثى لها. فقدت الكثير من وزنها، وأعصابها منهارة. من الأسهل على الأم أن تتحمل متاعب أولادها، لكن هل تجرؤ أختها على المجازفة بفتيات لسن لها؟

زرت خالتي في بوينس آيرس عام 1981. لم تشتكِ يوما بأن بقاءها معنا قضى على حياتها الخاصة، وعلى أحلامها ومستقبلها وحتى عملها المهني. توفيت فقيرة، وكان ممكناً لها أن تعيش حياة هانئة مرفهة لو قالت فقط: لا، لن أبقَى مع الطفلات.

رتبة الأمانة التي حازتها لا تُقارن بتضحيتها بحياتها من أجلنا وأجل أختها… بقيت أمينة لنا حتى الموت.

نشرت تفاصيل سجني تحت عنوان «خطة طوارئ». راجع جريدة البناء، 20 آذار، 2010، صفحة 8.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى