الشاعرة صفية قنص تنظم قصائد للوطن وحماة الديار
نزحت عن قريتها الجميلة زعورة في الجولان السوري المحتل في ريعان شبابها، لكنها حملت معها ذكريات فاضت في ثناياها دموع الألم والحزن على فراق من تركتهم مشتتين أهلها، لتغرف الشاعرة صفية قنص بسنواتها الثماني والستين قصيدتها من الضمير الشعبي المحلي بصدق وعفوية.
تفيض في كلماتها نفحات الانتماء للأرض السورية، إذ حملت الشاعرة الشعبية قنص بوجدانها مفردات الحياة لتخطها أشعاراً شعبية تخطف بالألباب، وهي التي لم يتسن لها ارتياد مدارس ولا جامعات، غير أن تجربة النزوح جعلت منها مبدعة في قلب المعاناة فقهرت الأمّية بإرادة وصمود.
تقول الشاعرة قنص إن صورة قريتها لا تفارق مخيلتها إذ أمضت فيها طفولتها وشبابها، حتى عام النزوح في نكسة حزيران 1967. تأثرت بجمال قريتها وغيرها، مثل الغجر وعين فيت الجارتين المطلتين على جبل الشيخ الشامخ، ففي أشعارها لم تنس تجمعات الصبايا على عين الماء ومواسم القطاف وجني المحاصيل وأيام الحصاد.
أول قصيدة كتبتها كانت بعد النزوح من قريتها في حزيران عام 1967، وبعد لقائها بأقربائها والناجين من أهل قريتها على أرض الشام لتصف لحظة قصف طائرات الاحتلال «الإسرائيلي» لقريتها والقرى المجاورة ولحظة وداع شقيقتها، تعيش خوف ألاّ تراها بعد هذه اللحظات المريرة فتقول: «بكت عيني على فراقك يا ضيعة … غريب وفي غربتي عيروني كلما شوفهن بالدرب مرة … يقولو نازحة وما يعذروني بكيت وهلت دموعي بغزارة … بعد ما أهل حيي فارقوني تذكرت الطفولة والشباب … وصبايا الحي كانوا يرافقوني».
أما في قصيدتها «يا زعورة» فتتغنى الشاعرة بجمال الضيعة وأيامها الهنية قبيل الاحتلال تقول: «يا ضيعة يا محلى هواكي… بجنة عدن ما برضى بلاكي يا ريتني كون طيرة في سماكي وأتنقل ع غصن الزيزفوني … يا ريتني كون بين ربوع أهلي … رويدا أتنقل وأمشي ع مهلي».
كما تنبري الشاعرة للتعبير في أشعارها عن حالات إنسانية مثل علاقة الرجل بالمرأة، ووصيتها لكل فتاة مقبلة على الزواج. تتفنن في إتقان القصيدة، أروع الكلمات وأصدقها وتتوالى القصائد وأساليب التعبير باللغة المحكية، وأحياناً بالفصحة لتعبر عما يدور في خاطرها.
وفي قصائدها تغزّل بأبناء الوطن من حماة الديار وتأثر بحرب تشرين التحريرية ونقد لاذع لمن اختاروا درب العمالة، بعد الدماء التي قدمها جنودنا البواسل على ثرى الجولان وسيناء. ثم تكتب عن انتصارات المقاومة في فلسطين ولبنان وحالياً عن المؤامرة على سورية.
ولا تصمت قنص عما شهدته حمص خلال سنوات الأزمة بل تكتب ما تشعر به في شأنها، وتخاطب في احدى قصائدها العقيد البطل الشهيد الطيار ثابت اسماعيل الذي أسقطت طائرته بسلاح تركي غادر في منطقة كسب، قائلة: «خيي يا طيار قلبي شعل بنار… كنك رايح عالجولان شفلي هاك الدار شفلي المنازل والدور وكل شجرة عليها شحرور … وانزل حيي ترابها وجبلي منها خبار».
من أحدث قصائدها التي كتبتها خلال الأزمة واحدة تصف فيها أصحاب المشروع الصهيو ـ أمريكي وكيف ارتدوا خاسئين أمام الجيش السوري الباسل والحنين والتوق الدائم إلى الوطن كما في معظم قصائدها: «سلاما أيها الوطن … ونيرانا لأعداك حماك الرب من غل … وعين الله ترعاك من النفاس في العقد … وقد غاصوا بمسراك جنود الشرذمة الكبرى … يليهم كل فتاك».
في قصيدة «زمن الشغب» من وحي الأزمة تصف حنينها إلى مسقط رأسها وحدسها الذي ينبئها بالعودة إليه: «جولان يا جولان حان الملتقى… ونيران جوا القلب شعلاني عندك شباب أسود شعلة نار … عند الوغى للموت هوياني اسمك الغالي عالقلب مطبوع .. وصورتك للروح فتاني».
إنه غيض من فيض أشعار امرأة سورية جولانية القلب واللسان والعقل، ووطنية الإحساس والانتماء، عاشت النزوح في صباها وتعيش اليوم مرارة تهجير أبناء الوطن داخله وخارجه، يحدوها الأمل بالانتصار وبعودة كل شبر من أرضنا المحتلة إلى حضن الأم سورية.
«ذاكرة اللواء» دراسات في أعمال الراحل سليمان العيسى
«ذاكرة اللواء» كتاب جديد للدكتورة ملكة أبيض، يضم مجموعة من الدراسات التي تابعت فيها المؤلفة كتاباتها عن إنتاج زوجها الراحل الشاعر سليمان العيسى، تتمة لكتابها الأول «سليمان العيسى في لمحات» الذي صدر قبل خمسة أعوام.
يضم الكتاب الصادر لدى اتحاد الكتاب العرب خمس عشرة دراسة قدمت الدكتورة ملكة فيها بعض كتب الشاعر الراحل أو عرفت بها وتحمل عناوين: النعيرية قريتي، كتاب اللواء، أغنية في جزيرة السندباد، كي أبقى مع الكلمة، إضافة إلى كتاب «السفر الجميل» الذي جمعت فيه مختارات من أعماله الأخيرة قبل طباعتها كاملة.
تناقش المؤلفة في بعض الكتب مواضيع بارزة في إنتاج العيسى مثل التراث والمسرح الغنائي للأطفال والمسرح الشعري للكبار وأدب الرحلة، وتتوقف عند كتابات الشاعر النثرية وعمله بمشاركة زوجته في تعريب قصص الأطفال الأجنبية ومسرحياتهم، وتقدم دراسات متميزة لبعض النقاد كما تلقي الضوء على جانب الحداثة في أعمال العيسى الأخيرة للكبار والأطفال.
تقول الدكتورة أبيض في مقدمة الكتاب إن العيسى في أواخر حياته لم يكن في حالة صحية تساعده في التفاعل مع الحوادث الأخيرة، مشيرة إلى أنه مر في نكبات كثيرة منذ الطفولة وأقساها بالنسبة إليه كارثة حزيران 1967 التي أحدثت نقلة نوعية في عطائه فكتب للصغار أناشيد وقصصاً ومسرحيات ومسلسلات والتفت إلى ذاته.
حدّد الشاعر الراحل منطلقات نظرية تؤطر لعطائه شديد الغنى والتنوع، بحسب ما تقول المؤلفة، واضعاً هذه المنطلقات مقدمة لأعماله الشعرية التي صدرت طبعتها الأولى عام 1980 في ثلاثة مجلدات تحت عنوان «قطرات ضوء على الطريق» وينطلق فيها من دور الشعر ووظيفته في ما يتعلق بالقضية التي يحملها الشاعر لما يكتبه، ففي الشعر كلمة مجنحة تمثل قمة كفاح الإنسانية لكي تحقق ذاتها. وفي «قطرات الضوء» يردد الشاعر هذه العبارات معرفاً عبرها نفسه: «أنا خلية في جسد تبحث عن ملايين الخلايا من أخواتها وتكافح بلا هواده لكي يتحرك الجسد وتتفتح الحياة». ويريد الشاعر من الكلمة الشاعرة أن تكون أداة ووسيلة للدفاع عن قضية أمته التي تعاني التخلف والتمزق المتفاقم، ومن هذه القضية ينطلق حلم العيسى والجماهير العربية في التحرر والوحدة، وتتفرع مسائل عديدة كالالتزام والقومية والإنسانية والجمهور والعروبة والماضي والمستقبل وتجديد الأمة والمقاومة والصمود ومظاهر التردد والاستسلام.
وعلى الغلاف الأخير للكتاب 265 صفحة اختارت المؤلفة كلمات للشاعر الراحل ويقول فيها:
«الحلم الضخم الذي عشت لأجله ومازلت أعيش هو أن تكون لي دولة عربية كبرى قادرة على أن تحمي أطفالي فلا يقتلعهم من يشاء ساعة يشاء من بيوتهم ويلقي بهم إلى أي مصير أسود يتلقفهم في الطريق. أنا إنسان عربي أرى نفسه يقتلع من داره… من تحت شجرة التوت في قريته … يحرم لغته وتراثه وأرضه وقريته فجأة … ويلقى به في الغربة طفلاً مشرداً منذ أكثر من ثلاثين عاماً… لماذا».
كتاب «ذاكرة اللواء» يحمل الرقم 4 في سلسلة الدراسات ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب في دمشق، الإخراج الفني لوفاء الساطي، وتصميم الغلاف لميسم حسن.