كل عام وأنتم منتصرون

د. فيصل المقداد نائب وزير الخارجيّة السوريّة

ليست قليلة الأيام المباركة التي نحتفي بها الآن وتزرع الأمل في نفوس العرب. إنَّ عبق الطهر والأصالة في البعدين التاريخي والجغرافي هما ميزتان محصورتان بأرضنا. فعلى ترابنا سار الرسل والأنبياء وبشروا برسائلهم ونقلوا كلام الله إلى أجدادنا وأحفادهم وإلى يوم الدين.

وفي إطار من الرمزية والخشوع، يحتفل أبناء أمتنا العربية بأعياد تلفّهم جميعاً بنوع من القداسة والعناية الإلهية حيث يشهدون الآن عيد ميلاد المسيح عليه السلام وعيد المولد النبوي الشريف، عيد ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعيد رأس السنة الميلادية. كل هذه الأعياد تتداخل في ما بينها لتعطي بهجة للنفس وراحةً للضمير لكي تعم قيم الخير والتسامح والإيمان في قلوب أبناء شعبنا على مختلف أديانهم ومشارب تفكيرهم وأطيافهم.

إنَّ كل ما في تاريخنا يوحدنا ولا يفرقنا، والأهم هو أننا اندمجنا كلاً واحداً في حياتنا ومشاعرنا وأرضنا وأملاكنا. كما أننا اندمجنا بعامل المحبة والانتماء إلى عروبتنا في كل مكان تواجدت فيه دماء الأمة في عروق أبنائها من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. ألا يحتفل مسلمنا كما يحتفل المؤمنون من أتباع عيسى ابن مريم بعيد ميلاد نبي السلام والأخلاق والتسامح؟ يؤكد كتاب الله الذي نقله إلى البشرية الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن من لا يؤمن بجميع أنبياء ورسل الله ليس بمسلم وقد خص الله عيسى بمركز أساسي في ذلك. نحن أمة واحدة برسلها وبعاداتها وتقاليدها وبتاريخها وبلغتها وفلسفتها وعلومها. ولا بد من القول إن ما يوحدنا هم أولئك الذين لا ينظرون إلينا إلا كأعداء سواء كنا في موريتانيا في الغرب أم في الجزائر والسودان وعمان أو في العراق وسورية ولبنان.

عندما اندلعت حرب تحرير الجزائر أو اليمن أو السودان من السيطرة الاستعمارية، كان العرب الآخرون في سورية ومصر وليبيا والمغرب يدعون إلى نجدة أشقائهم في البلدان التي تناضل من أجل تحقيق استقلالها وحريتها. وعندما يبكي أبناء فلسطين الآن أطفالاً ونساءً وشيوخاً، فإن العرب يقفون إلى جانبهم بغض النظر عن مواقف حكامهم وأنظمتهم وارتباطاتهم. ينتصر العرب لأشقائهم بغريزتهم واندفاعهم العفوي من دون توجيه أو تعليمات ومن دون حسابات سياسية أو اقتصادية، نعم لقد ولدوا هكذا وسيبقون هكذا!

قد تدلهم الخطوب وتزداد الصورة تعقيداً، وقد يستخدم الأعداء كل أدوات التضليل والتشويه لحرف الانتباه عمّا يجري في بلداننا العربية لتمزيق الأمة وقطع الروابط الأبدية التي وحدت ولا تزال في ما بيننا، إلا أن ما يبقى على رغم كل ذلك هو أن العربي يندفع من دون تفكير أو حتى تحليل، أو كما يقال بعاطفته للوقوف إلى جانب شقيقه. يكفينا ذلك، ولو كانت ردود الفعل مؤذية في بعض الحالات.

كانت السنوات الأربع الأخيرة من تاريخ أمتنا، في شكل خاص، سنوات عجافاً، وسيكتب التاريخ أن سبب البلاء كان ولا يزال هو ما تخطط له «إسرائيل» ومن خلفها الدوائر الغربية المتصهينة بهدف وحيد هو إخضاع أمتنا، كل أمتنا، لهيمنة وتسلط «إسرائيل» وتحكمها بأمتنا إلى غير رجعة. وعندما نقول ذلك، فإننا لا ندخل في التحليل، بل أن هذا الهدف كان معلناً على الملأ. وكان مفكرو ومنظرو نهج الهيمنة على العالم في الغرب، يشكون كثيراً إذ كانوا يقولون أنهم أسقطوا الإمبراطورية السوفياتية وغيروا أنظمة في آسيا وأفريقيا، لكنهم لم ينجحوا في تغيير الأوضاع في المنطقة العربية وأنه يجب أن لا تقر لهم عين إلا بعد تدمير البنى الفوقية في الوطن العربي. وكان هؤلاء يتهمون دولنا بافتقادها إلى الحريات الديمقراطية ووجود أنظمة لم تتغير منذ القرون الوسطى، وأنه يجب تغيير هذه الأنظمة، لكنهم يكذبون، فكل همهم هو مصالح «إسرائيل» التي زرعوها بيننا لقتلنا وإهانتنا.

أنه في الوقت الذي تبقى مسؤولية التغيير والتجديد مسؤولية حصرية بالشعب العربي، إلا أننا وجدنا أن الدول الغربية لم تحترم إرادة المواطنين العرب في كل دولهم واعتمدت كآلية للتغيير عملاءها من المجموعات المتأسلمة والإرهابية التي تمت تربيتها على أيديهم وترعرعت في أحضانهم. ومن جهة أخرى، فإن الغرب لم يتوجه مباشرةً إلى أولوية إحداث التغيير أو الإصلاح، إذا افترضنا أن ذلك مقبول في إطار القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وهو ليس كذلك. فهم لم يتوجهوا إلى بلدان كالسعودية وغيرها من الأنظمة المتخلفة، بل إنهم فشلوا لأنهم اكتفوا باللهاث وراء تغييرات شكلية تمثلت بما حدث في تونس ومصر واليمن في بداية الأحداث التي تمثلت بما أطلقوا عليه زوراً وبهتاناً الربيع العربي، بينما كان هدفهم الأساسي هو الوصول إلى تاج التغيير الذي أرادوه وهو سورية.

لقد سبقتهم الأحداث، وعلى رغم كل تخطيطهم وأجهزة استخباراتهم وإعلامهم فإنهم فشلوا وسقطوا في اختبار إحداث التغيير المطلوب. وإذا كان التفاؤل يدفعنا للقول أن شعبنا قد تحدى أهداف هذا العدوان الغربي «الإسرائيلي» وأدواته من «داعش و»جبهة النصرة» و»الجيش الحر» و»الكتائب الإرهابية» الأخرى التي اتخذت من أسماء الأنبياء والمرسلين والصحابة غطاءً للقتل الذي تمارسه وللدمار الذي تقوم به والحقد والكراهية الذين قامت بنشرها سواءً في تونس وليبيا والعراق وسورية ومصر وغيرها بتمويل سعودي، كي يحافظوا على نظامهم مقابل الأموال والرشاوى، ومن الحاقدين المتطرفين والمتشددين والتكفيريين والعملاء والخونة أفراداً ومؤسسات في بعض دول الخليج وغيرها، أو التسليح والإيواء الذي أمنته تركيا من خلال نظام رجب طيب أردوغان وغيره والذين خانوا الإسلام وابتعدوا عن قيمه ومعانيه الإنسانية والأخلاقية والروحية الخالدة. وهكذا فقد كان ما أطلقوا عليه «الربيع العربي»، ربيع الكذب والدمار والقتل وربيع «داعش» و»القاعدة».

إن ما يدفعنا إلى التفاؤل بتحقيق الانتصار الحاسم خلال العام الجديد المقبل، في البعدين الروحي والنفسي من جهة، والبعد العملياتي من جهة أخرى، هي وحدة شعبنا بكل غنى أطيافه الدينية والاجتماعية وإيماناً بعروبته ووحدة نسيجه وكذلك الإنجازات التي تحققت على الأرض وفي انتخابات تميزت بالديمقراطية:

– أظهرت الانتخابات الرئاسية السورية في نهاية حزيران وبداية تموز الماضيين داخل القطر وخارجه حيوية شعبنا ووعيه وقدرته على الاختيار وممارسة هذا النوع من حرية التعبير وحرصه على ممارسة الديمقراطية بأبهى وجوهها، كما أثبتت الانتخابات ثقة شعبنا بقائده الرئيس بشار الأسد ومنهجه في الصمود والمقاومة.

– حقق جيشنا العربي السوري انتصارات وإنجازات في مختلف أنحاء سورية على الإرهاب ومن يقوم بتمويله وتسليحه وإيواء مجرميه وقتلته من أتراك وسعوديين وتونسيين وأميركيين وشيشان وفرنسيين وهولنديين وغربيين آخرين.

– اتساع دائرة حلفاء سورية وتعزيز وقوفهم إلى جانب سورية وفي مقدم أولئك الجمهورية الإسلامية الإيرانية والاتحاد الروسي وقوى المقاومة الأساسية في المنطقة حزب الله والقوى الوطنية والتقدمية والقومية العربية التي تدعم سورية، وأكد هؤلاء وغيرهم إصرارهم على دعم سورية حتى تحقيق الانتصار على أعداء الشعوب وخطر الإرهاب وسياسات السيطرة والهيمنة الغربية وعربدة «إسرائيل» في المنطقة والعالم.

– نجاح سورية في إيصال رسالتها التي لا لبس فيها وهي أنها مع إنهاء التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية وفي شكل خاص من خلال فضح دور الدول التي أججت الأزمة السورية وأدواتها في مؤتمر جنيف الذي انعقد مع مطلع هذا العام، وكذلك استعداد سورية للتجاوب مع الجهد الدولي لتحقيق حل سلمي للأزمة فيها. وقد كان التعامل الدبلوماسي والسياسي السوري مع مبادرات الأمم المتحدة ومبعوثيها أنان والجنرال مود مثالاً على ذلك. ويعرف العالم كله الآن أن من أحبط الجهد العربي الذي قاده الجنرال السوداني الدابي هم السعوديون والقطريون الذين أرادوا قتل سورية من خلال الاستعجال لنقل ملفها إلى مجلس الأمن.

– التجاوب الإيجابي مع المبادرة الروسية لعقد مشاورات سورية سورية تمهيدية من دون تدخل خارجي، واستمرار التواصل السوري الروسي من أجل تأمين أفضل الشروط لإنجاح هذا الحوار الذي تبذل الدول الغربية جهدها لإفشاله في شكل مسبق بالتعاون مع أدواتها وعملائها. كما تجاوبت سورية مع مبادرة دي ميستورا وهي مستعدة أيضاً، بالتشاور مع الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، للتوصل إلى صيغة تضمن نجاح المبادرة وجهد المجتمع الدولي بناءً على فهم واضح من خلال التزام تركيا والسعودية بتطبيق قراري مجلس الأمن الدولي 2170 المتعلق بمكافحة داعش والنصرة وفروع القاعدة الأخرى، و2178 المتعلق بمكافحة الإرهابيين الأجانب.

– لقد أسفرت ثورة يونيو في مصر عن سقوط مخططات الغرب وكشف عزلة الإخوان المسلمين وسيدهم «الشيخ رجب طيب أردوغان» وأن شعب مصر لم يقم بثورة يناير خدمةً للإخوان المسلمين، بل لإعادة مصر إلى دورها الوطني المستقبلي والقومي الكبير الذي انقض محمد مرسي عليها وبدأ عهده بقطع العلاقات الدبلوماسية مع سورية لأنها تمثل رمز الإسلام الحقيقي وتواجه مخططات أعداء الأمة.

– اقتلاع الإخوان المسلمين من إدارة الدولة التونسية حيث أثبتت الانتخابات الأخيرة أن الغالبية المطلقة من أهلنا في تونس رفضت قرار المنصف المرزوقي، أداة الغرب والإخوان المسلمين الرخيصة في تونس، وأنها ترفض ابتعاد تونس عن سورية، وأثبتت أن شعبنا التونسي مع علمانية دولته ومع ترسيخ عروبته.

– هزيمة مخطط السعودية وسادتها في واشنطن وتل أبيب في إسقاط سورية على رغم مليارات الدولارات التي دفعتها للتكفيريين والقتلة، إضافةً إلى وقف المد الوهابي الحاضن الإيديولوجي لـ»داعش» والتكفيريين والمتشددين وإمكانية وصول أخطاء هؤلاء إلى داخل العائلة السعودية ذاتها، وعبر وعي عالٍ لدى أبناء شعبنا في الجزيرة العربية لمخاطر المتشددين والتكفيريين على الدين الإسلامي وعلى وحدة نسيج دولنا الاجتماعي.

– انفضاح حقيقة الغزو الغربي لليبيا الذي أدى إلى إسقاط الدولة الليبية وانتشار الإرهاب فيها وتهديده للدول المجاورة العربية والأفريقية وتحويل ليبيا إلى مركز للتدريب الإرهابي في أفريقيا والعالم.

سيقودنا الاستمرار في تعزيز هذه الإنجازات التي رسّخها صمود شعب سورية وأشقائه في لبنان والعراق ومصر وليبيا إلى ازدياد جو من التفاؤل والانتصار. ونحن في تحليلنا، لا نبالغ في التقليل من المخاطر التي ما زالت أمامنا، لكن هذه الانتصارات التي كانت سورية قاعدة لها وبفضلها صمد العرب والأصدقاء في مواقعهم المقاومة، هي التي تشكّل أرضية التفاؤل وحتمية الانتصار المقبل.

لم يكن لهذه الإنجازات أن تتحقق لولا صمود الجيش العربي السوري ونضاله جيشاً ملتزماً بأمن شعبه وأمته، ولولا بطولاته وتضحيات شهدائه وجرحاه بقيادة الرئيس بشار الأسد موجهه وملهم انتصاراته ولولا التفاف شعبنا حول جيشه وقائده. وما الانتصارات التي تحققت في العام الذي تقترب أيامه الأخيرة من الرحيل، إلا مبشراً على الانتصارات القادمة والتي نراها قريبة. ألم نتعلّم أن الانتصار هو صبر ساعة، ولقد اقتربت هذه الساعة.

كل عام وأنتم بخير، وكل عام وأنتم منتصرون.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى