بحثاً عن ابتسامة في زمن الحزن والغمّ والكآبة 2
جورج كعدي
ترتبط الابتسامة، وتاليها الضحك، وذروتها القهقهة، بأرقى التعبير الإنسانيّ أدباً ومسرحاً، وحتّى فلسفةً، فالفلاسفة الكبار من قامة أفلاطون وأرسطو وكانط وشوبنهاور وبرغسون وآخرين ساهموا في نظريّة الضحك، وبعضهم مثل برغسون وكيركيغارد كيركيغور في الأصل الدانماركيّ كرّس كتاباً لهذه النظريّة. ويندرج التهكّم Irony والمحاكاة الساخرة Parody والسخرية الحادّة Satire والتورية Pun والدعابة Wit والكاريكاتور Caricature والنكتة Joke والمفارقة Paradox في خانة الضحك كمفاهيم وأشكال متنوّعة ذات خصائص.
في محاورات أفلاطون يضطلع سقراط بدور المتهكّم مدّعي الجهل والحماقة، طارحاً أسئلة بريئة وساذجة تقوّض على نحو تدريجيّ مزاعم خصومه وتريهم الحقيقة في النهاية، وهذا ما يُعرف بالتهكّم السقراطيّ. ولدى الرومان البلغاء مثل شيشرون وكوينتيليان كان التهكّم شكلاً بلاغيّاً وأسلوباً في الخطابة للنيل من الخصم. واتسع استخدام التهكّم في القرنين السابع عشر والثامن عشر مع فولتير وسويفت وفيلدينغ وجونسون وآخرين، وقال الفيلسوف الألمانيّ شليغل عام 1797 «إنّ الفلسفة هي الموطن الحقيقيّ للتهكّم»، واصفاً مزاج سقراط التهكّمي بأنّه يحاكي الأعمال الشعريّة الكبيرة، فكلّ شيء فيه جادّ وساخر في الوقت نفسه، واضح ومستتر. وفي كتابه المهمّ «مفهوم التهكّم» 1841 يؤكد كيركيغارد على أن التهكّم هو شكل من أشكال إدراك الأمور وأسلوب خاصّ في رؤية الوجود. وقدّم فلاسفة وأدباء آخرون مثل نيتشه وبودلير وهاينه وتوماس مان نظريّات حول التهكّم، وكان التصوّر السائد لديهم هو ذاك الخاص بالتهكّم الرومنطيقيّ، أي الذي وضعه الشاعر نوفاليس للتهكّم إذ قال إنّه «وعي أصيل وحضور حقيقيّ للعقل». والرواية هي الأداة الرئيسيّة للتعبير عن التهكّم الرومنطيقيّ الموجود أيضاً في المسرح والشعر. ثمة تهكّم في أعمال مسرحية مثل «ستّ شخوص تبحث عن مؤلّف» للكاتب المسرحيّ والروائيّ الإيطاليّ بيرانديللو، وفي ديوان «دون جوان» للشاعر الإنكليزيّ بايرن، وفي بعض أعمال الروائيّ الألمانيّ توماس مانّ. أمّا المحاكاة الساخرة فاستخدمها أريستوفان في مسرحيّة «الضفادع» التي سخر فيها من أسلوب أسخيلوس ويوريبيدس، كما توسّل أفلاطون في حواريّة «المأدبة» أسلوب كتّاب آخرين على نحو كاريكاتوريّ ساخر. وبلغ هذا الأسلوب قمّته في عصر النهضة مع ثربانتس الذي سخر في تحفته الخالدة «دون كيخوته» من تراث عصر الفرسان في القرون الوسطى. كذلك قلب رابليه وإراسم القرن السادس عشر أركان الفلسفة والفكر المدرسيّ الأرسطيّ رأساً على عقب من خلال المحاكاة الساخرة لهما، ومثلهما فعل شكسبير محاكياً بسخرية أعمال كتّاب آخرين في أعماله مثلما فعل مع التأنّق اللفظيّ البيانيّ لدى جون لايلي Lyly في مسرحيّته «هنري الثامن»، أو مع أسلوب مارلو المنمّق الطنّان في تحفته «هاملت».
رُوي عن الفيلسوف الفرنسيّ الساخر شامفور 1741 ـ 1794 أنّه قابل يوماً في القرية طبيباً حاملاً بندقيّة صيد فسأله: أتخشى أن تخطئ مرضاك؟!
وقال عن أسقف ضخم الجثة: لقد خلق وأُرسل إلى العالم كي يدرك إلى أي مدى يتّسع الجلد البشريّ.
إلى أوسكار وايلد الذي سأله أحد الشعراء المغمورين: ما العمل؟ تحاك ضدّي مؤامرة حقيقيّة من الصمت فبمَ تنصحني؟ أجابه وايلد: ينبغي لك الانضمام إلى المتآمرين.
ومن أقوال وايلد:
ـ العمل هو لعنة الطبقات التي تدمن الشراب.
ـ هل تدخن التبغ؟ بلى! حسناً! ينبغي للمرء أن يكون له عمل ما في هذا الوجود.
ـ لا ينبغي أن نرسم إلاّ الموتى، فالرسم الفوتوغرافيّ هو الانعكاس الصحيح للموتى.
ـ إنّ من يستطيع السيطرة على مأدبة لندنيّة يمكنه السيطرة على العالم.
ـ العالم صنعه المجانين كي يعيش فيه الحكماء.
ـ السخرية هي أن يرى المرء الأمور مثلما هي لا مثلما ينبغي أن تكون.
إلى تريستان برنار قائلاً لساشا غيتري: هل لاحظت التقدّم الذي يسجّله الجهل في أيامنا هذه؟
وقالت شارلوت ليز لزوجها اللاذع السخرية ساشا غيتري: أحبّك، وأنت؟ فأجابها: وأنا أيضاً أُحبّني!
وتساءل غيتري: يُقال إنّه لا ينبغي قطّ اشتهاء زوجات الأصدقاء! من نشتهي إذن؟!