صدد الانتصار… ميلاد لأبناء الحياة على رغم الألم والدمار
لورا محمود
جاء الميلاد، ميلاد السيد المسيح، ليملأ العالم بالمحبة والفرح، بعد امتلائه بالشرور والحزن والكراهية. حمل المسيح أعظم رساله للبشرية كلّها، المتمثلة بالسلام، لذلك أنشدت الملائكة نشيدها الخالد «المجد لله في الاعالي وعلى الارض السلام وبالناس المسرّة».
اليوم، وفي وسط الحرب والوجع، حمل أهالي بلدة صدد الواقعة في ريف حمص، شعار الفرح، أملاً منهم بأن يكون العيد ملوّناً بلون البهجة التي تمحو ما عاشته البلدة من هدم وتدمير في مقدّساتها وكنائسها ومعالمها الثقافية والحضارية منذ فترة ليست ببعيدة. وبعد تحريرها من المجموعات الأرهابية بفضل الجيش السوري وأبنائها الذين قدّموا الغالي ودافعوا عنها بكل ما استطاعوا، قرّر أهالي البلدة والمجتمع المدني فيها أن يعيشوا أجواء العيد بطريقة مختلفة. فأتت فكرة المغارة الميلادية لتكون مفاجأة سارة لجميع أهالي صدد في الوطن والمهجر.
ففي مساء ليلة العيد، كان افتتاح مغارة الميلاد التي احتضنها منزل صدديّ قديم، وفي وسطه شجرة كبيرة قام شباب البلدة بتزيينها وإضاءتها. ونُفّذت المغارة الميلادية ضمن عدّة غرف ضمّت البيت التراثيّ، وغرفة للأطفال، وزريبة للحيوانات الأليفة إضافة إلى المغارة. وبعد انتهاء الأهالي من زيارة المغارة الميلادية، أقيم احتفال شعبيّ في الساحة العامة وأمام المغارة.
النعمة
عقب الاحتفال، أقيمت ندوة حوارية مع المطران سلوانس بطرس النعمة، وشخصيات اعتبارية مثقفة من صدد.
وفي لقاء أجرته «البناء» مع المطران سلوانس بطرس النعمة، تحدث عن الاحتفالية وفكرة المغارة الميلادية قائلاً: «أردنا الخروج من الجوّ الكئيب الذي كانت تعيشه البلدة، خصوصاً بعد كل ما حصل فيها وفي سورية عموماً، فثمّة أهالي محزونون على أبناءهم الذين قضوا في الأحداث الأخيرة، سواء من أبناء الجيش السوري أو من الدفاع الوطني أو من المدنيين. فقرّرنا نحن أخوية دير مار أنطونيوس شباب عطول أن نقوم بعمل نبهج فيه أهالي صدد وكلّ المحزونين، فعملنا على ترميم بيت قديم جدّاً مصنوع من الطين والقش، وسقوفه من الخشب، لنبني فيه مغارتنا الميلادية. وبدأنا العمل في 15/11/2014 ولاقت الفكرة ترحيب الجميع وتشجيعهم، وكان هناك إقبال من هيئات المجتمع المدني في البلدة الذين قاموا بالمساعدة والتبرّع لإتمام هذا العمل. وقسّمت غرف البيت لتكون إحداها عبارة عن نموذج مصغّر للحياة الصددية التراثية والحضارية، وأسميناها «البيت الصدديّ»، وهناك غرفة ثانية أطلقنا عليها اسم «المتحف» وتضمّ أدوات الزراعة القديمة والنول القديم، خصوصاً أنّ أهالي صدد مرّوا بمرحلة ما بعد الزراعة فعملوا في الحياكة على النول وتربية الحيوانات والدواجن. أما الغرفة الثالثة فهي عبارة عن «زريبة للحيوانات الأليفة»، والغرفة الرابعة هي غرفة ألعاب للأطفال، واستطعنا بالتعاون مع أحد الفنانين من صدد، أن نصنع مجسّمات لألعاب الميلاد وألعاب أخرى للأطفال. أما الغرفة الخامسة، فكانت للمغارة الميلادية، وأردنا أن تكون عبارة عن خيمة لنشعر جميعاً بالنازحين والمهجرين الذين يعيشون في الخيام، ولنجعلهم يفرحون بالعيد ولنشعرهم بالأمل وبأننا نقف معهم وإلى جانبهم. فحتى السيد المسيح رسول السلام لم يولد في منزل بل في مغارة».
وأضاف: «وضعنا في المغارة صورة المطرانين المخطوفين، المطران بولس يازجي والمطران يوحنا ابراهيم، وصور بعض المخطوفين من أهالي صدد وبعض المخطوفين من أبناء سورية كلّها».
نحن جزء من كلّ
وأكد المطران النعمة: «أنّ سورية اليوم تعيش أزمة لا يتحمّلها أحد، وقد دخلت في نفق مظلم لا نعلم نهايته. ولأننا أبناء الحياة يجب أن تكون إرادتنا قوية، وإيماننا من الداخل قوي. فمن أتى بالحرب علينا أراد أن يحاربنا في إرادتنا وإيماننا وأماننا. نحن في سورية عشنا سنوات من الفقر والحصار لكنّنا كنّا دائماً ننعم بالأمان ونفاخر به، وليس فقدان الأمن ما نقاسيه، إنّما أيضاً شعورنا بالخوف من الآخر المختلف عنّا، سواء ببيئته أو ديانته، فمنذ بداية الحرب على سورية أرادوها أن تكون حرباً أهلية، وبعد مرور كل هذا الوقت فإن الخوف من الآخر ما زال موجوداً لدى البعض. لذا حاولنا بهذا الحدث على بساطته، أن نشعِر الناس جميعاً بأننا في صدد غير معزولين عن الآخر، ونحن جزء من الكلّ وأبناء سورية، ولا يمكن أن يكونوا منغلقين على مناطقهم ودياناتهم بل كلّنا يد واحدة نحب الآخر المختلف عنّا نحترمه ونعيش معه. هكذا كنّا وهكذا سنبقى».
الغرب وتهجير المسيحيين
ونوّه المطران النعمة بأنّ هدايا «بابا نويل» التي قدّمت للأطفال هي تقدمة من «جمعية الوفاء بدير عطية»، إضافة إلى أهالي صدد الذين تبرّعوا ببعضٍ منها. وأخيراً تحدّث عن القوة الايمانية التي تحرّكنا، فنحن لدينا حبّ الحياة ولن يأخذوها منّا مهما فعلوا. وقال: «حتى أهالي الشهداء الذين قمت بزيارتهم، كانت لديهم إرادة أكثر منّا لإنجاح هذا العمل وشجّعونا». وأضاف: «سورية ستعود كما عهدناها طالما فيها أبناء يحافظون عليها يؤسسون لجيل أفضل وحياة أفضل، لكنني أشعر بالحزن على كلّ من هاجر وترك سورية موجوعة، فهم استسلموا لدعوات الغرب الهادفة إلى تهجير المسيحيين من أرضهم وثقافتهم على رغم أنّ المسيح يقول: أنتم ملح الأرض والخميرة الصالحة، فجذورهم في هذه الأرض ويجب أن يبقوا متمسكين بها، فالغرب لطالما أراد أن يقسّمنا ويحوّلنا إلى دول طائفية يحكمها المتطرّفون.
لن يقتلوا إرادة الحياة فينا
وتحدّث الدكتور مطانس يازجي، وهو أحد منظّمي هذا الحدث، وعبّر عن أهمية هذا العمل بعد كل ما تعرضت له صدد من معاناة وحزن، وقال: «إننا اليوم نحاول أن نخلق جوّاً من الفرح والتفاؤل، ورأينا أنّ أفضل مناسبة يمكن أن تشعرنا بذلك، عيد ميلاد السيد المسيح، لذا قرّرنا أن يكون هذا العيد مختلفاً تماماً عن باقي الأعياد، فكانت فكرة المغارة الميلادية عندما وجدنا هذا البيت الريفي القديم الذي يعود إلى سنة 1892 وفيه شجرة في الوسط، وهي التي أوحت لنا بالفكرة. وساهم الأهالي في البلدة بتقديم كل ما يلزم من مساعدات، خصوصاً الشباب الذين عملوا بأيديهم».
وأكد يازجي أنّ أبناء صدد يحبون الحياة، وقال: «بعد ما مررنا به خلال الأزمة في سورية، أردنا أن نبرهن للعالم أننا شعب لا يستسلم ولا يضعف مهما حاولوا أن يقتلوا فينا إرادة الحياة. فعندما تحرّرت صدد من يد الإرهاب، كنت حينذاك وما زلت المسؤول عن لجان الإغاثة والمهجرين، ورأيت كيف تضافرت كل الجهود واستطعنا أن نعيد بناء البنية التحتية في البلدة من كهرباء وهواتف ومياه، وكيف نعيد الحياة إليها ونمحو عنها كل ما قاست منه، وذلك خلال فترة قصيرة جداً. فنحن خلقنا من هذه الأرض وهي لنا، ولن يستطيعوا سلبها أو أخذها منّا».
وأشار يازجي إلى أن المغارة الميلادية ستبقى حتى نهاية السنة.
حنون
وكان لنا لقاء مع ملك حنون، إحدى المشاركات أيضاً في العمل، إذ قالت: «استطعنا أن ننجز شيئاً جميلاً خلال فترة قصيرة. وشارك في هذا الحدث جميع أبناء صدد تقريباً، وقدّموا الدعم المادي والمعنوي. فبعد كل ما عانيناه في سورية وفي صدد خصوصاً، كان من المفرح أن يكون الميلاد هذه السنة مختلفاً. فخلال السنوات الثلاث السابقة، لم تعش البلدة طقوس الميلاد».
وأخيراً، لا بدّ أن نذكر أنّ تاريخ بلدة صدد يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد. ومعنى اسمها «جانب الجبل»، وهي ذات أهمية تاريخية كبيرة، وفيها عدد من الكنائس الأوابد الأثرية. وانتقلت الديانة المسيحية من حمص إلى صدد، وساعد في ذلك ارتباطها بها تجارياً وإدارياً، وأصبح يطلق على من اعتنق المسيحية من الآراميين اسم سريان.
وتقع صدد في الريف الجنوبي الشرقي من حمص، وتعدّ امتداداً للقلمون باتجاه الشمال ما بين دمشق جنوباً وحمص شمالاً، تحدّها من الغرب بلدة حسياء، ومن الشرق مهين، ومن الشمال بلدة النعامية، ومن الجنوب بلدة الحفر. جغرافياً، تقع صدد على خط الطول 36.56 شرقاً، وعلى خط العرض 34.18 شمالاً.
ومن بلدة صدد العريقة التاريخية بكل مقوّماتها وأصالتها وتاريخها، خرج مثقفون بكل درجاتهم وتخصّصاتهم. فصدد تعدّ أمّ المدارس في المنطقة الشرقية، ويعود التعليم المدرسي المنهجي في صدد إلى أوائل القرن الماضي، وما هو جدير بالذكر أيضاً، كنائس صدد التي كانت ولا تزال جامعات إيمان ونور وسلام، تفتح مدارسها الصيفية لكلّ من أحبّ تعلّم اللغة السريانية الآرامية القديمة.