ما ليس مُستَغرباً!
نسيب أبو ضرغم
منذ ما يزيد على سنوات أربع من عمر الحرب الصهيو ــ أميركية على سورية، لا تنفك المملكة العربية السعودية تضخّ كل ما لديها لمصلحة هذه الحرب، فلا تدخر مالاً ولا إعلاماً، بحيث جَيّرت جميع إمكانات شعب الجزيرة العربية لتصب في أهداف التحالف الصهيو ــ أميركي القاضية بتدمير الدولة السورية واستطراداً الشعب السوري.
ها هي المملكة السعودية الوهابية، وتنفيذاً لأوامر التحالف الصهيو ــ أميركي، تضاعف ضخ النفط في السوق العالمية، بغية خفض قيمة البرميل منه، تطبيقاً لمؤامرة تدمير اقتصادات دول تواجه أحادية القرار الدولي، وفي مقدّم هذه الدول الاتحاد الروسي وإيران.
أما لماذا محاولة ضرب اقتصاد كل من إيران وروسيا، فليس لأن مملكة الرمل ذات استراتيجيات دولية، وذات أوزان في السياسة الدولية توظفها لخدمة القضايا القومية الكبرى، بل لأن ثمة سببين أساسيين:
الأول: يدخل في كينونة الدولة السعودية، وهو الأساس.
الثاني: يدخل في طبيعة التفكير القَبَلي الطاغي على القرار السياسي السعودي.
أما السبب الأول فإنّ المطلع على كينونة الدولة السعودية منذ بداية القرن العشرين يدرك أنها دولة ـ وظيفة أنشأتها الدوائر الاستخبارية الإنكليزية ــ اليهودية، لدعم قيام دولة «إسرائيل» على أرض فلسطين، واختير عبد العزيز آل سعود ليكون حاكماً لهذه الدولة، بعدما رفض الشريف حسين شريف مكة هذا العرض.
أسندت الاستخبارات الإنكليزية مهمة تمكين عبد العزيز آل سعود من شعب الجزيرة العربية إلى السير «برسي زكريا كوكس» رئيس محطة الاستخبارات الإنكليزية في الهند، وأسند هذا الأخير إلى الكابتن ديفيد شكسبير مهمة التنفيذ على الأرض، وبعد قتل شكسبير هذا تسلم المسؤولية جون فيليبي الذي يعود إليه «الفضل» في قيام دولة إبن سعود. والجدير ذكره أن الثلاثة كانوا يهوداً.
جرت المقايضة الكارثة بين إبن سعود عبد العزيز والسير برسي زكريا كوكس، وقامت على تعهد إبن سعود بأن يساعد ويدعم قيام دولة «إسرائيل»، مقابل تمكينه من حكم الجزيرة العربية وإن على أشلاء شعبها ومليون شهيد.
هنا وثيقة بخط يد عبد العزيز آل سعود قدمها إلى السير برسي كوكس وجاء فيها:
بسم الله الرحم الرحيم
«أنا السلطان عبد العزيز إبن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، أُقر وأعترف ألف مرّة للسير برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود، أو غيرهم كما تراه بريطانيا، بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة». وقد وقعها عبد العزيز بخاتمه تاريخ آل سعود ــ ناصر العبد، ص 250 ، أيضاً ثمة وثيقة هي كناية عن رسالة من فيصل بن عبد العزيز إلى الرئيس الأميركي جونسون ذات رقم 242/9 م ذ/س بتاريخ 15 رمضان 1386 الموافق 27 ديسمبر 1966 ويرد فيها: «إنه إذا لم تدعم أميركا «إسرائيل» لاحتلال الأراضي المصرية والسورية لكيلا يرفع المصريون رؤوسهم بعيداً عن القنال، ويتوقف المد القومي العربي في سورية ومصر، فسوف لن ينسحب الجيش المصري من اليمن، وستزداد الثورة في الجنوب قوة، وستقوم ثورات في بلادنا، وسوف لن يحل العام 1970 وقد بقي لنا ولكم وجود في هذه المنطقة» المرجع نفسه أعلاه، ص 856 .
وأكثر من ذلك، في يوم 4 حزيران 1967، وصل الملك فيصل إلى الدمام فالتقى قادة قوى الأمن، وكان الاجتماع الأول للملك من هذا النوع، وأبلغهم فيه بوضوح تام: «إن «إسرائيل» ستحتل مصر وسورية يوم غد 5 حزيران وسيكون احتلالها هذه المرة فاصلاً، يغيّر مجرى التاريخ، وستكون نهاية «البكباشي» ويعني الرئيس عبد الناصر المرجع نفسه أعلاه، ص 857 .
كينونة إنكليزية ــ يهودية، استمرت مواقف مؤكدة لها، وما أوردناه أعلاه خير مثال على ذلك، وها هي الآن تستمر في تأكيد التعهد بأن تضخ ما يزيد على المئة مليار دولار لتنفيذ مخطط اليهود بتدمير سورية الطبيعية برمتها.
أما السبب الثاني فيعود إلى طبيعة التفكير القبلي القاصر على حدود مصالح القبيلة، مهما تكن محدودة بالنسبة إلى مجموع الشعب، فالقبيلة آل سعود تقاس المصالح بها، وتوظف إمكانات الدولة لها، من دون أن تتعدى ذلك إلى مصلحة قومية شاملة. لذا، لا يعني للقبيلة تدمير العالم العربي، طالما أن هذا التدمير يمكنها أكثر من السلطة.
أوردنا السببين الأساسيين اللذين يقفان خلف انخراط الدولة السعودية في المؤامرة على سورية واستطراداً على العالم العربي برمته.
من خلال هذين السببين، لا يعود استغراب الموقف السعودي في مكانه، بل عدم الاستغراب هو الأكثر صحة، فالدولة السعودية تماهت كينونتها بطبعها وطبيعتها، ولا يمكن أن تقدم غير ما قدمت. الغرب المتهود دمّر العراق ويدمر سورية، كما دمر ليبيا، وهو عينه الغرب المتهوّد يُمكّن «إسرائيل» أكثر من فلسطين، أرضاً وشعباً، تلك الدولة التي ينبغي بكل بساطة أن تضخ ملياراتها لدعم الفلسطينيين والعرب أجمعين، في مواجهة الوحش اليهودي. هذه الدولة التي ترفع علم الإسلام لا ترى عدواً لها في اليهودي الذي احتل فلسطين ودنّس المقدسات ويُدنّسها كل يوم، يذبح، يدمر، يقطع الأشجار ويهجّر، وذلك كلّه لا يستدعي العمل ضده، فقط إيران وروسيا يجب تدمير اقتصادهما انصياعاً لأمر التحالف الصهيو ــ أميركي!
العقل البدوي المرتهن للتعهد المشين، لا يرى ضرورة قومية في الانخراط في تكتّل دولي يمكنه أن يعيد التوازن والحقوق في حال انتصاره على التفرد الأميركي في العالم.
عقل مرتهن لا يعي أننا وللمرة الأولى نجد أنفسنا في معادلات الصراع قوة ذات فعل، في حين كنا على مدى مئة عام إمكاناً مفعولاً فيه.
نحن في سورية ندرك يقيناً أن مئة عام في انتظارنا، مئة عام سيكون لنا معها حرية بناء أنفسنا، مئة عام آنية تنهض على مئة عام مضت من الانكسارات والهوان.
نحن في سورية ندرك أن مارداً أخذ يتململ ويقف على قدميه من دمشق إلى بيروت المقاومة إلى بغداد ومصر والجزائر وليبيا. وبالأخص، إلى اليمن. بلى، اليمن. مارد سيقف وسط بحيرة الدم والدمار والجوع، لكنه سيقف على قدميه، ومن قال إن الانتصارات العظيمة لا تكون أثمانها عظيمة بقدرها.
كيف يمكن أن نستغرب ما يفعله السعوديون، وما سيفعلونه، وقد بشّروا بأنهم على استعداد لخفض سعر برميل النفط إلى عشرين دولاراً، كيف يمكن أن نستغرب؟! الاستغراب كان جائزاً لو أنهم لم يفعلوا! ذلك أن «تعهدهم» لا يزال قائماً.
… ولكن كلمة التاريخ في نهاية المئة عام على جريمة سايكس ــ بيكو، ستنطق بها سورية، ناسجة من جروحها قميص المسيح الذي مزّقه يهود العصور كلّها، مُعلنة لهذا العالم الغارق بيهوديته أن المسيحية الحقة والإسلام الحضاري هما لاهوتنا القومي، وقد جسدناه زوبعة حمراء لتحيا سورية.