ربع قرن على هدم جدار برلين هل ندم الألمان على وحدتهم؟
وسام سعد
لا يمكن الحديث عن ألمانيا من دون التوقف عند متحف «جدار برلين»، أو «جدار العار»، كما أسماه الغرب، والنظر إلى حزمة الأسلاك الشائكة ورسوم الغرافيتي على الجزء المتبقي منه، وما يختزله من حكايا معاناة، بعدما تحوّل من رمز للانقسام إلى رمز للوحدة، ومزاراً سياحياً وميلاداً جديداً لألمانيا.
هَدمُ جدار برلين المُقام سنة 1961، كان أحدُ أبرز أحداث القرن الماضي. يحتفل به الألمان في كلّ عام. سقط الجدار فجأة في ليلة التاسع من تشرين الثاني 1989، في شكل شبه كامل، باستثناء 103 أمتار بقيت منه، لتتحوّل بعد ذلك إلى معلم تذكاري، بُني عليه «متحف الجدار»، أحد رموز الحرب الباردة.
عام 1987 ألقى الرئيس الأميركي رونالد ريغان كلمة عند جدار برلين، طلب فيها هدم الجدار من رئيس الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف الذي أثار تنصيبه أميناً عاماً للحزب الشيوعي آنذاك سخط دول المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية.
وأعطى سقوط الأنظمة الشيوعية في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، خلال الفترة ما بين 1988-1989، حافزاً للألمان لتفعيل الحراك السلمي الشعبي بين الشطرين نحو الوحدة، وتزامن ذلك مع إعلان «عفوي» لغونتر شابوفسكي، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني، مفاده «أن قيود التنقّل بين الألمانيتين رُفعت».
أدوات هدم الجدار، التي كانت في غالبها بدائية وبسيطة، باتت تصطف فوق رفوف متحف جدار برلين، لتشهد على حقبة أليمة من التاريخ الألماني. وتخليداً للحظات توحيد الألمان، أنشئت صالة العرض «إيست سايد غاليري»، على الجزء الأطول من بقايا الجدار، لتكون مصدر إلهام لإبداعات الفنانين، ولعلّ أبرزها لوحة للرسام الروسي ديميتري فروبيل بعنوان «قبلة أخوية»، يظهر فيها الرئيس الألماني الشرقي إريك هونيكر وهو يعانق نظيره السوفياتي ليونيد بريجنيف.
تدفقت إثر الوحدة بلايين الدولارات على المناطق الشرقية، لإصلاح البنى التحتية في المدن، ومحاربة الفساد الإداري المستشري فيها منذ الحقبة السوفياتية، وتوفير فرص العمل. حينها أدرك الشرقيون أنّ الرخاء الذي عمّ عليهم من ألمانيا الغربية لم يأت بين ليلة وضحاها، وإنما كان مخططاً له منذ عقود.
رغم التوحيد، لا تزال حال من عدم الارتياح قائمة إلى الآن في العلاقات الداخلية بين الشرقيين والغربيين، معظمها بسبب الإرث الاقتصادي للنظام السابق. ففي حين تحتفل برلين بذكرى سقوط الجدار، تُحيي منطقة لايبزغ في شرق ألمانيا بدلاً من ذلك ذكرى الثورة غير العنفية. لكنه انقسام لا يعني الكثير مقارنة بالإنجازات الهائلة التي حققها الشعب الألماني بعد وحدته، وضمن الاتحاد الأوروبي الأكبر.
معجزة اقتصادية لم تتحقق
على الصعيد الاقتصادي يبدو انّ تبعات وسلبيات الوحدة فاقت بكثير توقعات الساسة الألمان، فقد بلغت تكاليف الوحدة حتى الآن ما يزيد عن 1500 مليار يورو، أنفق معظمها في مشاريع البنية التحتية وفي أنظمة الرعاية الصحية والتقاعد. وفي مقال له في صحيفة «فرانكفورتر الغماينة تسايتونغ» كتب مدير مركز جامعة برلين الحرة للأبحاث المتخصصة في شؤون ألمانيا الشرقية كلاوس شرودر يقول: «لقد حاولت جميع الحكومات الألمانية عدم الكشف بأمانة عن التكاليف المترتبة على الوحدة الألمانية تفادياً لنشوء مظاهر الحسد والتذمّر تجاه الألمان الشرقيين». وما زال الألمان الشرقيون يتذكرون شعارات هيلموت كول في أول انتخابات جمعت بين شطري البلاد عام 1990 عندما وعد بتحقيق «معجزة اقتصادية» في الشطر الشرقي على غرار تلك التي تحققت في ألمانيا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية. ولكن يبدو أنّ تجاوز آثار 40 عاماً من الأداء الاقتصادي السيّئ لحكومات ألمانيا الشرقية لن يتمّ بين ليلة وضحاها، كما أنّ التحوّل من نظام الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق لن يكون بالسهولة التي توقعها الساسة الألمان، فإنتاجية الشركات والمصانع هناك لا تعادل نصف مثيلاتها في ألمانيا الغربية، كما أنّ تلك المصانع قديمة وغير قادرة على إنتاج ماركات قادرة على المنافسة في أسواق أوروبا الغربية.
هذا كله أدّى الى إعلان عدد هائل من الشركات الشرقية عن إفلاسها في فترة وجيزة جداً، الأمر الذي أدّى الى ارتفاع حادّ في أعداد العاطلين من العمل هناك، وهي المشكلة التي تحاول الحكومة الألمانية إيجاد حلّ لها منذ سنوات.
سيطرة اقتصادية
ولم يمرّ وقت طويل حتى بدأت الفجوة في الاتساع من جديد. فأخذت الشركات الألمانية الغربية العملاقة تبسط يدها على ما تبقى من اقتصاد ألمانيا الشرقية المنهك، ليس بهدف تطويره أو تحديثه وإنما بهدف ضمان التخلص ومنذ البداية من أيّ منافسة ألمانية شرقية في هذا المجال أو ذاك. كما حاول الكثير من الألمان الغربيين الكسب والربح بطرق ملتوية، مستغلين بذلك براءة وسذاجة الألمان الشرقيين وقلة خبرتهم في السوق الجديدة. وفي المقابل، بدأ الألمان الشرقيون بالبحث ومن دون جدوى عن الرخاء الاقتصادي الذي وعدهم به هيلموت كول. وهنا نشأت صورة الألماني الغربي المغرور الذي يدّعي المعرفة والإلمام بكلّ شيء Wessi تقابله صورة الألماني الشرقي المتذمّر الممتعض باستمرار.
أخذت المليارات تتدفق من ألمانيا الغربية إلى ألمانيا الشرقية فتمّت عمليات إصلاح المدن وتحديث البنية التحتية لألمانيا الشرقية، وتوفرت فرص عمل ولكن ليس للجميع. فتدافع الشبان الأذكياء الأكفاء من بعض مناطق ألمانيا الشرقية باتجاه الغرب مخلفين وراءهم كبار السنّ قليلي الحيلة. وكانت القلة القليلة من الألمان الشرقيين قد أدركت أنّ الرخاء والازدهار الذي عمّ عليهم من ألمانيا الغربية لم يأتِ بين ليلة وضحاها وإنما كان مخططاً له منذ عقود طويلة.
الفائزون والخاسرون
الكثيرون يفضلون الآن عودة السور، وقد خلص الاستفتاء إلى أنه في الوقت الحالي لا تظهر هذه المشاعر إلا في بعض المناطق البعيدة عن المركز بولاية براندنبورغ، ومن حين إلى آخر في أوساط بعض الأقليات فحسب. أما في الغرب، فإنّ ثمة مقولة تتردّد كثيراً مفادها أنّ المواطنين في شرق ألمانيا مستسلمون بشدة لمشاعر «رثاء النفس وبكاء الحال».
كما أشار استطلاع إلى أنّ مواطني شرق ألمانيا الذين كانوا مندمجين بشكل كامل في النظام الاشتراكي، والذين ولدوا في شرق ألمانيا قبل عام 1973 هم بين الفئات الأكثر ميلاً الى عودة السور.
وبعد سنوات من اختفاء سور برلين فإنّ ثمة نقاشاً يدور في شرق وغرب ألمانيا حول ما يسمّى «الفائزون والخاسرون» من إعادة توحيد شطري ألمانيا.
هل ندم الألمان على تحقيق الوحدة؟
على الصعيد الاجتماعي هناك تباين واضح في مواقف الألمان من الوحدة. فبعد الاحتفالات الشعبية العفوية والمعانقات الحارة التي أعقبت انهيار سور برلين، عادت الخلافات والمنافسة بين المجتمعين تطفو على السطح. هذا ما أشار إليه عالم الاجتماع هاينز بوده في كتابه «الأمة الساخرة» الصادر في هامبورغ عام 1999، والذي أشار فيه الى أنّ استخدام تسميات مثل «غربيين» و «شرقيين» لم يقلّ بعد الوحدة وإنما زاد وتفاقم، مؤكداً فرضيته هذه بالقول: «كلما اقترب المرء من الآخر، كلما زادت رغبته في الابتعاد».
«الوحدة الألمانية حدث تاريخي رائع»… هذا ما يتردّد سماعه في كلّ مكان… وهذا ما يراه معظم الألمان. ولكن آخر استطلاعات للراي أظهرت شيئاً آخر وهو أنّ 20 بالمئة من الشعب الألماني يتمنى التقسيم وعودة سور برلين من جديد.
ولقد أظهر استطلاع رأي آخر أجراه معهد فورسا لحساب «الجامعة الحرة» في برلين أنّ واحداً من بين كلّ تسعة من سكان العاصمة الألمانية يحبّذون عودة سور برلين، وذلك بعد 19 عاماً من هدمه.
هذا الاستطلاع الذي أجري في ربيع العام 2008 شمل ألفي ألماني في برلين وولاية براندنبورغ المحيطة أظهر أنّ 11 في المئة من المستطلعة أراؤهم في غرب برلين و12 في المئة في شرق برلين قالوا إنهم يحبّذون لو أنّ السور الذي انهار في تشرين الثاني عام 1989 قد ظلّ في مكانه.