تفاهمات «التنسيق» و»الائتلاف» وحركة الالتفاف الخلفية

د. إبراهيم علوش

وثيقة التفاهم على صيغة الحل السياسي في سورية التي قالت وسائل إعلام مختلفة إن «هيئة التنسيق الوطني» و»الائتلاف الوطني السوري» على وشك توقيعها، تمثل إقراراً من هذين الطرفين اللذين أصرا في السابق على رفض محاورة القيادة السورية، بأنهما باتا مستعدين لمحاورة الدولة السورية، وصولاً إلى «حل سياسي» للأزمة السورية، كما تمثل تراجعاً عن تصلبهما إزاء مطلب «إسقاط النظام» مسبقاً. هذا التصلب صب الزيت على نيران الأزمة، إلاّ أن أي قراءة دقيقة لما رشح عن بنود هذه الوثيقة يؤكد أنها ليست أكثر من حصان طروادة سياسي يستهدف الحصول بقوة دفع المبادرات الروسية والمصرية والدولية على ما تعذر عليها تحقيقه بطرائق أخرى. لا بد بدءاً من التذكير بأن كلا «الائتلاف» و»هيئة التنسيق» يفتقد: 1 الوزن الميداني، و2 القاعدة الجماهيرية العريضة، أي أنهما ليسا في أيّ حالٍ نداً للدولة السورية أو حتى للقوى التكفيرية المتطرفة، وكثيراً ما نسمع المتحدثين باسم «التنسيق» و»الائتلاف» يبرران جرائمها بذريعة أنها مجرد «ردة فعل طبيعية على جرائم النظام»! إنما تكمن قيمة الطرفين سياسياً بأن «الائتلاف» يمكن لعب ورقته إعلامياً كـ»معارضة خارج»، و»التنسيق» يمكن لعب ورقتها إعلامياً كـ»معارضة داخل»، غير «داعش» و»النصرة»، رغم بعض التداخلات بين «النصرة» و»الائتلاف»… فهما طرفان محمولان على جناح حاجة إدارة أوباما إلى طرف سوري بديل من التكفيريين الصريحين، وحاجة روسيا ومصر إلى طرف من النوع نفسه لإخراج حل للأزمة السورية، وإدراك أطراف التوافق الخليجي الناشئ السعودي-القطري أن الإصرار على إسقاط القيادة السورية عسكرياً وصل إلى منتهاه، وانتقال أطراف ذلك التوافق بالتالي إلى محاولة إسقاط القيادة السورية عبر بوابة «الحل السياسي»، مع إبقاء الضغط العسكري والإرهابي على سورية، في محاولة لاستدرار التنازلات من الدولة السورية في المفاوضات، وهي اللعبة نفسها التي تلعبها الإدارة الأميركية أيضاً. يدرك طرفا الوثيقة بالتأكيد أنهما لا يملكان قدرات ذاتية تؤهلهما لأن يكونا حتى نداً ثانوياً للدولة السورية، ولذلك تتمحور وثيقتهما حول فرض: 1 مرجعية دولية وإقليمية لمشروع حل الأزمة السورية، 2 المطالبة بقرارات ملزمة من مجلس الأمن الدولي حيال سورية تتعلق بوقف إطلاق النار أو تصدير السلاح أو تشكيل قوات «حفظ سلام» عربية ودولية. رغم حديث الوثيقة عن وحدة سورية وسيادتها، فإن مثل هذه البنود تذهب أولاً بسيادة سورية، فهي دعوة إلى وضع سورية تحت الوصاية الدولية والإقليمية، وإعادتها إلى زمن الانتداب، كما أنها تمثل محاولة لاختراق «الفيتو» الروسي والصيني على استصدار قرارات دولية ملزمة في شأن سورية بذريعة أنها تصدر في سياق تثبيت الحل السياسي للأزمة. إنما يدرك كل ذي عقل ما يأتي به التدويل من مآسٍ، من اليمن إلى ليبيا فالعراق والصومال… حتى الانتخابات يفترض أن تكون مراقبة دولياً لتأتي بمجلس نيابي يقوم هو بانتخاب الرئيس! أما بالنسبة إلى وحدة سورية، فإن مشروع الاختراق يتمثل في بند وضع الجيش العربي السوري تحت القيادة الملزمة لمجلس عسكري موقت يخضع لحكومة موقتة تخضع بدورها لمرجعية دولية! وهذا البند، فضلاً عن كونه محاولة لنزع أهم ورقة من يد الدولة السورية في مواجهة العصابات المسلحة والتكفيريين، يترك وحدة سورية مثل ريشةٍ في مهب الريح تلعب بها أهواء أطراف «معارِضة» سورية، إذا صحت تسميتها كذلك، هي في الأساس أدوات في يد حكام تركيا وقطر والسعودية وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وهي القوى نفسها التي حاولت تفكيك سورية على مدى سنوات الأزمة. فالجيش والقوات المسلحة ضمانة وحدة سورية واستقلالها، ووضعه تحت وصاية الأطراف السورية المرتبطة بالخارج لا يختلف عن وضعه تحت وصاية ذلك الخارج مباشرةً من الناحية الفعلية. المشكلة إذن في التدويل، وفي محاولة السيطرة على قيادة الجيش في «المرحلة الانتقالية»، حتى قبل الوصول إلى حل سياسي وانتهاء المفاوضات، ما يمثل استغباءً للعقول في الواقع. ويا حبذا لو ردت القيادة السورية بمطلب وضع جيوش «هيئة التنسيق» وفيالق «الائتلاف» تحت قيادة هيئة أركان الجيش العربي السوري خلال فترة التفاوض ريثما يتم التوصل إلى اتفاق! البنود الأخرى مثل إطلاق سراح جميع المعتقلين وعودة سائر المعارضين في الخارج من دون قيد أو شرط وإصدار عفو شامل عن جميع المطلوبين، دونما تمييز، يشمل فعلياً جميع المتورطين في الإرهاب والتآمر على سورية، حتى الذين لا ينضوون تحت لواء «هيئة التنسيق» أو «الائتلاف الوطني»، وهي دعوة مفتوحة إلى تصعيد الأزمة إلى أجل غير مسمى رغم إشارة الوثيقة إلى «محاربة الإرهاب». فكرة جمع أطراف المعارضة، غير التكفيرية اسماً، وزجها في التفاوض مع الدولة السورية، تعبّر عن أزمة تهميشها ميدانياً من قبل الأطراف الأكثر تطرفاً ودمويةً، وعن أزمة داعمي تلك الأطراف المعارِضة وتفككها وفشلها وذهاب ريحها، ولولا تلك الأزمة لما قبلت التراجع عن المطلب المسبق بـ»إسقاط النظام»، وهذا التقهقر ليس تقهقرها وحدها، بل هو تقهقرٌ للأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لها، ما سمح لروسيا ومصر بالدخول على الخط، وما يتيح لتركيا وحكام الخليج ودول الناتو النزول عن الشجرة العالية التي صعدوا إليها. وغنيٌ عن القول إن الدولة السورية العريقة في خبراتها الدبلوماسية وحنكتها السياسية لن تمر عليها محاولة تحويل تلك الخطوات التراجعية إلى حركة التفاف من الخلف أو إلى مناورة استراتيجية لانتزاع «إسقاط النظام» سياسياً من بين فكي الهزيمة، ومن المؤكد أن الدولة السورية والجيش العربي السوري، ونحن على أبواب العام الجديد، لن يسمحا بعملية «نصب» سياسية من هذا النوع رغم الجروح والآلام، حفاظاً على الأهداف السامية التي قدمت التضحيات كلّها لأجلها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى