الحرب الباردة على نار هادئة
طاهر محي الدين
تعمّدوا إهانة الأمة الروسية ولم يتعلموا القاعدة الأساسية في الحروب. لم يتعلموا أنّ من أهم قواعد الحروب أنك خاسر فاشل إذا ما قرّرت إذلال خصمك وإهانته، لأنّ نصرَك لا يكون بتدمير قوة عدوك العسكرية أو تدمير جيشه وبناه التحتية، فعدوُّك هذا الذي تعمّدتَ إهانته وإذلاله، إن لم تقم بإبادته شعبياً وعسكرياً وبشكل كامل وهذا غير ممكن، سيبني نفسه من جديد ويعود لينتقم منك ويلحق بك الهزيمة، مهما طال الزمن.
تعمّدوا إهانتها وتعاملوا معها بما لا يليق بما تمثله من تعداد سكاني وقوة علمية وعسكرية واقتصادية عظمى، وهي الأولى في العالم في تصدير النفط والغاز، أو بما تمثله من قيمة حضارية وإنسانية وتاريخية، إضافة إلى أنّ حلفاءها يمثلون ما يقارب أكثر من نصف سكان الأرض، وخصوصاً حليفتها الكبرى الصين التي تحتل المركز الاقتصادي الأول في العالم.
نعم أيها السادة… لقد تعمّدوا إهانة الأمة الروسية فأستنهضوا رجل «الكي جي بي» القوي الصلب القيصر بوتين، لردّ اعتبار روسيا العظمى، والذي لا يزال يحظى بتأييد 85 في المئة من شعبه بالرغم من تهاوي اقتصاد الدولة وتدهور سعر الروبل بشكل ملحوظ، في الوقت الذي تتهاوى فيه، بل تنهار، شعبية زعماء الدول التي تحاربه إلى مستويات قياسية وبشكل متسارع، وخصوصاً تلك التي تخوض الحرب الباردة والحرب بالوكالة ضدّه، بعد فرضها عقوبات اقتصادية كان من نتائجها خسارة 100 مليار دولار سنوياً نتيجة تخفيض أسعار النفط و40 ملياراً نتيجة الحظر الاقتصادي. علماً أنني لست مع مصطلح «عقوبات»، لأنّ العقوبات لا تُفرض على دولة عظمى مثل روسيا التي تمتلك ثاني احتياطي في العالم من العملة الصعبة، والأهم أنها تتحكم بعصب الطاقة الصناعية، وتؤمن لأوروبا ما تحتاجه لتدفئة شتائها القارس من الغاز.
فمن يعاقب من؟ أو من يعزل من؟ أوروبا المريضة التي كادت تتسبب لليونان، الدولة الصغيرة اقتصادياً فيها، بكارثة اقتصادية تطيح باليورو وتعرض الاتحاد المالي الأوروبي للخطر والدمار؟ أوروبا التي تتجمد كلياً من دون الغاز الروسي شتاءً؟ أم الولايات المتحدة التي تدين بأكثر من 5 تريليون دولار لحليفة روسيا الأكبر في العالم ألا وهي الصين، بعد أن تراجعت، أي الولايات المتحدة، إلى المركز الاقتصادي الثاني في العالم؟
برغم كلّ هذا، ردّ بوتين على الناتو مرتين: الأولى حين تعهّد بتعافي الاقتصاد الروسي خلال سنتين على الأكثر، والثانية والتي كانت مزلزلة، بتعديل العقيدة العسكرية للجيش الروسي، والردّ المخرِس بالقول: «واهمٌ من يعتقد أنه قادر على تغيير ما حدث في القرم، فإنّ القرم تعني لنا ما يعنيه المسجد الأقصى والكعبة للمسلمين، وكنيسة المهد للمسيحيين».
وبالرغم من تعرّضه لضربة مربكة في حديقته الخلفية أوكرانيا، لا يزال بوتين يحافظ على هدوئه الصلب، ويردّ بضربات من الثلج الروسي على صقور أميركا في البيت الأبيض والكونغرس، وهو الذي لم يلتقِ خلال العام 2014 الرئيس الأميركي أوباما إلا مرتين على هامش لقاءات دولية، كما غادر مؤتمر الـ20 لأنه شعر بالنعاس، ورفض تسليم العميل سنودن.
هناك الكثير من الجفاء السياسي بين الرجلين، يظهر من خلال المواجهات المعلنة بينهما في مجلس الأمن، تجاه القضايا على الساحتين الإقلمية والدولية.
إذاً كلّ مؤشرات الحرب الباردة ظاهرة، والطرفان يطبخانها على نار هادئة بعيداً من المواجهة العسكرية المباشرة، فالعقيدة الجديدة للجيش الروسي، موجهة إلى مفهوم الدفاع، وهي تعتبر ردّاً على محاولات الناتو الانتشار على الحدود الروسية، الأمر الذي يمسّ محيط أمن روسيا القومي.
لقد قرأ الجميع ما بين سطور التهديدات العلنية، ومنح بوتين الصلاحية المطلقة باستخدام القوة النووية في الردّ على أيّ اعتداء أو تصرف يهدّد أمن روسيا، وإعادة تفعيل برنامج «حرب النجوم»، ونشر الأسلحة النووية الاستراتيجية في الفضاء.
إنّ أكثر ما يشبه الحرب الباردة في حياتنا اليومية، سياسة عضّ الأصابع بين المتنافسين، فهل سيستمرّ صعود روسيا في ظلّ تنامي قوة حلفائها وثباتهم في مواجهة الضربات الأميركية في ساحات المواجهة من بحر الصين وكوريا الشمالية وجمهوريات القوقاز وإيران وسورية والعراق وشرق أوكرانيا وأوسيتيا الجنوبية، أم أنّ النزعة الأميركية الأوروبية التوسعية هي التي ستصمد وتجبر الروسي وحلفاءه على الصراخ أولاً؟