«سيران» الأمس… بطيخ اليوم
يوسف موصللي
في ذلك النهار المشمس، بلغت حصيلة قذائف الهاون أكثر من خمسين، توزعت على أحياء دمشق، غالبيتها العظمى سقطت على الشريط الشرقي منها والمحاذي للغوطة الشرقية، حيث كان الدمشقيون ماضياً يذهبون ومعهم مختلف أدوات «السيران» وعلى رأسها البطيخة المبردة جيداً.
أما اليوم فيبدو أنّ «السيران» بدأ رحلة معاكسة إلى دمشق، إنما بشكل جديد تماماً، قذائف من البطيخ المنفجر، يرسله بطيخ متفجر هيأ مطاراً من القذائف غير العشوائية، بمنتهى الدقة، كأنها مزوّدة رأساً حساساً للمدنيين، وأجهزة استشعار خاصة بحاضنة «النظام»، كأنه نظام موزمبيقي وكأننا «حاضنته» من نيكاراغوا…
بعيداً عن التفصيل في وصف العقل المقابل أو اللاعقل المقابل، نعود الى حاضنتنا، ففيها من هو خائف إنّما غلب عليه التعوّد فبات خوفه ألماً مزمناً، وفيها من هو رافض هذا الواقع بالمطلق إلى حدّ أنه ما زال يفاجأ مع كلّ قذيفة وكل خبر سيّئ، كما فيها من يطالب الجيش بالحسم والدخول والانتصار، وغالباً عن حرقة في القلب وليس عتباً أو لوماً، فهو يعرف تماماً أنّ الجنود هم أمامه بخطوات عديدة والخطر حولهم أعظم، وهم الأكثر إرادة للحياة كونهم يعاينون الموت يوميّاً.
على سبيل المثال، تكيّفت شخصياً على النحو الآتي: رسمت في ذهني صورة مسبقة لمشهد موت سائر المقرّبين مني، محاولاً تخفيف آثار الصدمة مسبقاً، ولم أرسم بالطبع سيناريو موتي، فعند الموت لن يكون الحزن من اختصاصي، حتى لو أردت، لأنني لن أكون موجوداً.
إنها أساليب متعددة وليس فيها أسلوب صائب تماماً، فما من طريقة للتعايش مع الموت، إلاّ بالحياة ربما، فبحسب توقيت أهل البطيخ تتوقف أمطار القذائف مساءً، وهو الوقت الممتاز للخروج مع الأصدقاء والتحدث عن الموت وأعداد القذائف لبضع دقائق، أي حتى عودة الروح الدمشقية الأصيلة… روح الحياة. في تلك اللحظة تماماً ينقلب المثل فتذهب الفكرة وتأتي السكرة، سكرة حب وصحبة وحياة.
في ذلك اليوم المشمس، ورغم عاصفة الموت على رؤوسنا، بقيَ يومنا مشمساً حتى في مسائه، وبقيت رؤوسنا شامخة تحيي سماء المدينة، مدينة تعلّم الحياة من دون معلم فكيف يهزمها الموت؟ كيف وهو عابر سبيل أخطأ الهدف على ما يبدو فأقمنا له قبراً عندنا ودفّناه جيداً، ووضعنا فوق قبره مائدة من الطعام الفاخر وأقمنا الأفراح والأعراس والاحتفالات، وأنشدنا بملء صوتنا للحياة… لأننا أبناء الحياة.