بين عمر كرامي ويوسف بن يعقوب
ناصر قنديل
المرة الأولى للقائي بالرئيس الراحل عمر كرامي كانت في العام 1988 في مثل هذه الأيام، عندما زرته وزرت الرئيس الراحل سليمان فرنجية في زغرتا حاملاً رسالة من الرئيس نبيه بري، الوزير آنذاك، حول التشاور في كيفية التعامل مع الاستحقاق الرئاسي الذي سيحلّ خلال شهور بنهاية ولاية الرئيس أمين الجميّل، وكان اللقاء بالرجل المتواضع في مسجد المنصوري الذي اعتاد الصلاة فيه بعد رحلة صيد بحري في نهار مشمس من نهارات كانون، بعدما عدت إلى المنزل في الحادية عشرة قبل الظهر موعد عودته من رحلة الصيد كما أبلغني أهل بيته، الذين كانوا في التاسعة صباحاً قد دعوني لمشاركتهم الفطور إلى حين عودته، ففضلت الذهاب إلى زغرتا حيث التقيت الرئيس سليمان فرنجية وعدت ظهراً متأخراً أسأل موعداً جديداً مع الرجل الذي قصدته عبر دمشق عن طريق حمص لأنقل إليه رسالة على غاية من الأهمية وأتشاور معه حولها، لأنقل الحصيلة إلى الوزير نبيه بري آنذاك، الذي كان على تشاور مع حليفه الوزير وليد جنبلاط في حكومة متداعية يترأسها الرئيس سليم الحص خليفة للشهيد الرئيس رشيد كرامي في آخر أيام عهد الرئيس أمين الجميّل.
في زغرتا احتفى بي الرئيس الراحل سليمان فرنجية واستبقاني إلى مائدة الغداء وزوجته الرائعة إيريس فرنجية ونجله روبير، وكان الشاب سليمان فرنجية الزعيم الذي يستعدّ للزعامة مع رفاق السلاح في جولة تدريب، كانت لقاءات سابقة من ذات النوع قد جمعتني بالرئيس الراحل سليمان فرنجية والرئيس الشهيد رشيد كرامي، في عامي 1983 و1984، للتنسيق في الموقف من اتفاق السابع عشر من أيار، ثم للتشاور قبيل انتفاضة السادس من شباط وما بعدها، ومن ثمّ قبل مؤتمري جنيف ولوزان للحوار الوطني، وكان الرئيس فرنجية كلما رآني يبدأ بالسؤال، وماذا في الكشكول من أفكار، وحكاية الكشكول عن كتاب لبهاء الدين العاملي، حول رحلاته وأفكاره، كان يلاطف الرئيس نبيه بري محدثيه ببعض ما فيها، وأبدأ بالسرد والشرح وتحيات الأستاذ نبيه الذي ما كان يخفي فرنجية محبته وتقديره لفروسيته ووطنيته وعروبته، وهي الخصال التي تختصر الرجولة عنده، وكان المقترح ترشيح الرئيس سليمان فرنجية للرئاسة وعقد مؤتمر وطني في بيروت يترأسه فرنجية استعداداً لمعركة فاصلة حول هوية لبنان وعروبته، معركة ستبدأ سياسية لكن يجب الاستعداد لحسمها عسكرياً. لم يكن الرئيس فرنجية متفاعلاً مع البعد الشخصي من الفكرة إلا بمقدار ما تمليه عليه من مسؤولية قيادة مرحلة يجب أن تنتهي بحسم هوية لبنان العربية لمرة أخيرة بلا مواربة، وأبلغني الاستعداد للانتقال إلى بيروت عندما يرى الأخ نبيه ذلك مفيداً.
عدت إلى طرابلس وفي جعبتي فرحي بالنجاح مع الرئيس الزعيم سليمان فرنجية وتوقي للتعرف إلى الزعيم عمر كرامي، للمقارنة بداية مع ما تسنّى لي من معرفته في الرئيس الشهيد رشيد كرامي في لقاءات تداخلت فيها روح الطرفة بالعمق السياسي، والجدية حدّ الصرامة. لما بلغت منزل آل كرامي وتبلغت أنّ الرئيس عمر كرامي ينتظرني في المسجد، وقصدته هناك فإذ هو في قيلولة ما بعد الصلاة ينتظرني وفي باله أن نكون معاً للغداء، فاعتذرت لاضطراري العودة إلى دمشق وقد تشرّفت بالغداء إلى مائدة الرئيس سليمان فرنجية. لفتتني نظراته الذكية ودقة تحديقه، وسكينة سؤاله، عن حال من أوفدني، كيف الأخ نبيه، وشو بتخبرونا، عساه خيراً، وبعد سماع سريع جواب أسرع، نحن هنا في الشمال متفقون مع آل فرنجية على خطى الحميدين وسليمان والرشيد، والباقي تفاصيل، فالأمن في عهدة الإخوة السوريين، والسياسة عندكم، فشرحت الفكرة، واستطردت في تقديم موقف الرئيس فرنجية الذي كان يهمّ الرئيس عمر كرامي أن يعرفه، ولما انتهيت اختصر القول: العروبة قرارها في دمشق وهي ثقتنا، والوطنية نأتمن الأخ نبيه عليها، والرئاسة نرى فيها ما يراه آل فرنجية، فطالما اتفقوا على قول واحد نحن جاهزون.
عدت إلى دمشق، ومرّت الأيام وتكرّرت اللقاءات بالرئيس عمر كرامي، وكان أهمّها وأكثرها قرباً بعد عشرين عاماً تقريباً، في العام 2005 وما بعده، ولهذه اللقاءات الكثير الكثير مما يُقال فيها وعنها، لكنني مع رحيل الرئيس عمر كرامي أسترجع صفات فريدة في الرجل، المقاتل في وجه أعدائه، الفارس مع خصومه، والوديع الودود مع حلفائه، حتى وهم يحسبون له ألف حساب، حتى ذكرني بحكاية يوسف وإخوته، فقد رموه في البئر عدة مرات، وقالوا لأبيه يعقوب إنّ الذئب قد أكل أخاهم، ولما أتيح له بقوة السلطة الانتقام نسي وتسامى، في المرتين عرف أنهم رموه في البئر، وفي المرتين نسي وسامح وتسامى، وفي المرتين كان الحظ يحالفه ليعود كبيراً، فيكبر لقومه وبهم لا عليهم، منذ انتفاضة الدواليب عام 1992، عندما أرادت اللعبة الدولية الإقليمية المجيء بالرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة، إلى انتفاضة ساحة النجمة عام 2005، عندما ضحك حظ اللعبة نفسها للرئيس نجيب ميقاتي، وفي المرتين عمر كرامي يرمى من إخوته في البئر وحيداً، لكنه ما خان للودّ قضية، ولأنّ يعقوب الوالد عنده هو الوطن، كان يكفيه أن يلقي عليه قميصه لكي يبصر، لكن بصر يعقوب قد خانه مراراً، وكان يكفيه أن يعلم القاصي والداني أنّ زوجة عظيم مصر، السلطة والمال، هي من راودته عن نفسها وما ضعفت قواه ولا هانت فيه شهامة، ونخوة، فقميصه قد شق من دبر، فكذبت وهو من الصادقين. وفي كلّ مرة حلّ جفاف مواسم الخير والرجال بقومه، واستنجدوا بقمحه ما بخل عليهم وتنكب المسؤولية حتى عاد البئر يراودهم عليه.
رحل الرئيس عمر كرامي وما تخلى لحظة عن عروبة تغلغلت في نبض شريانه، ولا خان أو هان بوطنية بقيت عنده أكبر من الطائفة والطائفية والطوائف، هي مدرسة الكرامة في السياسة في زمن قلّ فيه الرجال، حمى الله الرئيس سليم الحص وبارك الله بالفيصل.