قراءة تحليليّة في رواية «صابر» للروائيّ والسينمائيّ سليم دبور
سمير الجندي
رغم أن كاتبها الروائي سليم دبور مواليد 1970 أنجزها في أيلول 1993 وكان شاباً في مقتبل العمر، إلا أنها رواية تستحق أن يطلق عليها «رواية جميع الفلسطينيين»، وهكذا اعتبرها بعض الذين كتبوا عنها آنذاك، إذ تغطي بكفاءة عالية وموضوعية عقوداً من الألم والصراع والمعاناة التي عاشها الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، حتى انتهاء الانتفاضة الأولى المجيدة وتوقيع اتفاقية أوسلو. والرواية في 491 صفحة قطعاً وسطاً وهي موزعة على 27 جزءاً وصدرت في أواخر 2013 لدى «دار الجندي للنشر».
تتميّز حوادثها بصدقية وموضوعية وإحساس كبير، وبالصورة قبل كل شيء، كأن قارئها يشاهد فيلماً سينمائياً أنجز بمهارة عالية، مستخدماً الحبكة المركبة، فهي تقوم على أكثر من حكايتين، حكاية «صابر» الشخصية المحورية، وحكاية العجوز «أبا العبد»، وحكاية «أبا محمد»، وبأسلوب ذكي ومن دون فجوات تذكر. وكي تصل آراء الكاتب إلى كل فلسطيني وعربي كتب الرواية بلغة واقعية، مباشرة، متماسكة، وأسلوب شائق سلس يحفز القارئ على قراءتها حتى النهاية، وبقوة جاذبه تدفعه إلى التفاعل مع حوادثها بلا ملل، تاركة في وجدانه مشاعر شتى بين الغضب والفرح، الحزن والسعادة، بلى حتى البكاء أحياناً.
تسلط الرواية الضوء على معاناة إنسانية طال ليلها كثيراً وتضرّج نهارها بدماء شعب مسالم كان يعيش فوق أرضه بهدوء واستقرار. فاغتصبت أرضه على مرأى ومسمع الجميع ولم يبادر أحد إلى رفع الظلم، فوجد نفسه وحيداً في مواجهة مخطط صهيوني تم الترتيب له مسبقاً بمساعدة أطراف متعددة. شعب تجرّع ولا يزال أنواع التعذيب والتقتيل كافة، والعالم أعمى لا يرى الحقيقة، أصم لا يسمع إلاّ صوت المحتل، أبكم لا يقول كلمة حق، بل يدعم الاحتلال ويسانده ويتجاهل صراخ الضحية!
يستهلّ الروائي سليم دبور روايته ببداية مهمة جداً شاء أن يعرّي فيها حقيقة العالم المنحاز، ويثير فيها بطل الرواية «صابر» جملة من الأسئلة المنطقية التي تحفز ذهن القارئ وتدفعه إلى البحث عن إجاباتها: «لماذا لا تتساوى القوة عند الجميع؟ لماذا يصر الضعيف على ضعفه؟ لماذا يسرف القوي في استخدام قوته؟ مَن قسَّم القوة؟ لماذا شعبنا هو الضحية دائماً؟ لماذا الجسد العربي مصاب بالشلل الدماغي؟ لماذا يملك زعماؤنا الذهب الأسود ولا يملكون العقل، بينما يملك الأغراب العقل وبذكائهم يسرقون ذهبنا؟ لماذا يُنصر الظالم؟ لماذا كان عليّ العيش في غرفة أشبه بقن الدجاج، وغيري ينعمون بالقصور؟ لماذا جُعلت لاجئاً؟ إلى متى ستظل السكين المتثلمة تحزّ أعناقنا والعالم صامت؟ متى سأغادر هذه المصحة الحمقاء، ومتى سيتوقف أولئك الساديون عن حقني؟». هذه الأسئلة المنطقية والمباحة تولد الرغبة والتشويق لدى القارئ لمتابعة القراءة والتفكير مليّاً في أجوبتها.
ينتقي الروائي دبور شخوص روايته بحكمة، كذلك أسماء الشخوص، رغم تعمّده منح أسماء تعني عكس حقيقة أصحابها، مثل «شريف» صبي الخدمة في المقهى، وهو في حقيقة الأمر عميل يخدم المحتلّ، و«صابر» ابن «أبي العبد» وهو في الحقيقة ابن خائن/ كثير اللهو تسبب بمقتل شقيقه المناضل، وسعيد الرجل الشفاف وهو في حقيقة الأمر شقيّ فقد زوجته وبيته وحتى عقله. أما «صابر» و«نضال» و«دلال» فأسماؤهم تطابق حقيقتهم. كما جعل الشخصية المناسبة في المكان المناسب، وبالتالي تشكلت بتفاعلها ملامح الرواية وتكوّنت بها حوادثها الشائقة، فجميع الشخوص صادقة يمثلها البشر.
ثمة جيل الانتفاضة الأولى الذي تمثله شخصية «صابر» المحورية، وهي شخصية متميزة بجميع المعايير وبأبعادها الثلاثة، البعد التكويني والاجتماعي والوجداني أو النفسي. وللاسم هنا دلالة مهمة، فـ«صابر» يتحمّل المصائب بصبر وعاش الانتفاضة الأولى وعانى ما عاناه من قمع جنود الاحتلال وجبروتهم. وحُرم أمه منذ نعومة أظفاره، وكان في خدمة والده المشلول، وعمل في تلميع الأحذية لتوفير قوته وقوت والده، وهو خريج متفوق من الجامعة وعاطل عن العمل، وهو عاشق خجول، ومطارد، وجريح، ومعتقل من دون تهمة، ومتهم بالجنون كونه الأكثر إدراكاً لما يدور حوله، ولا يجد من يحسن الاستماع إلى ألمه فيلجأ إلى صورة والده الميت شاكياً له قسوة الحياة ومرارتها بعد موته، معتقداً أن الأموات يعلمون أخبار الأحياء.
ثمة أيضاً جيل النكبة الذي تمثله شخصية «أبا العبد» الرئيسية الثانية التي تظهر في المتن الروائي بنسبة ربما تفوق الخمسين في المئة. شخصية فذّة، حكيمة، مقاومة، حازمة، مثقفة، عاشت مرحلة الانتداب البريطاني، ثم النكبة بتفاصيلها الموجعة، ولها تجارب عديدة ومتنوعة، مؤلمة ومؤثرة كان لها الدور الأكبر في صقل الشخصية وتتويجه بتاج الحكمة. ساندت هذه الشخصية الجميلة «صابر» ودعمته بقوة وحكمة لتخطي الصعاب التي كان يواجهها. هذه الشخصية الفذّة تحسب للكاتب، إذ أراد أن يعزز مبدأ التناغم بين الجيلين في مواجهة الاحتلال بحيث كان جيل الانتفاضة في المقدمة، مسنداً بجيل النكبة، إضافة إلى أنه أراد أن يخبر القاصي والداني عن امتداد الوجع الفلسطيني تحت نير الاحتلال الغاشم. ففلسطين احتلت منذ كان العجوز صبياً واستمر احتلالها، لنرى هذا الصبي في صورة رجل مسن، كأن الكاتب أراد قياس عمر الاحتلال بعمر العجوز ليقرّب الصورة إلى من لم يدرك بعد طول المعاناة وثقلها. كما شاء أن يورث الجيل الجديد الألم في رسالة مبطنة إلى الأشقاء العرب الذين تركوا الفلسطيني يقاوم الاحتلال وحده وبصدور عارية من دون أن يحركوا ساكناً. وهذا يبرر سخط صابر في الفصل الأول من الأنظمة العربية التي اتهمها بالخيانة والتآمر: « كلهم مجرمون. ستظل خيانتهم تطاردهم في أحلامهم وصحوتهم وقبورهم إلى يوم يبعثون. باعونا بثمن بخس، تآمروا علينا وهم من فصيلتنا».
إلى شخوص عديدة ثانوية لعبت دوراً مهماً وكانت بمثابة العامل المساعد في التفاعل الكيميائي، ربطت الحوادث أو أكملتها وكان لها الأثر الجميل في بناء الرواية رغم أنها شخوص غير مصيرية، وبينها شخصية «نضال» الذي كان يعتقد «صابر» أنه رجل لئيم وفظ نتيجة تصرفاته حين توفى والده، بيد أنه أدرك أنه رجل شجاع وطيب، ولم تعبّر تصرفاته وقت الوفاة عن حقيقته الجميلة فأضحى صديقاً له، بل شريكاً له في الحانوت. وهو شخصية ثورية مقاومة. كذلك شخصية المجنون «جرعوش» وهي موجودة في كل مخيم وقرية تقريباً. شخصية مسالمة، عنيفة أحياناً، لكن طيبة ووفية معظم الأحيان، وحتى هذه الشخصية كان لها دور في مقاومة الاحتلال. وشخصية «أبا محمد» التي سلط الكاتب من خلالها الضوء على قسوة الفراق القهري بسبب الشتات بعد النكبة، وربما أراد أيضاً أن يطرح مسألة الأبناء العاقين الذين تخلّوا عن والدهم في فترة الاعتقال بعدما أخذوا أمواله بل أرادوا زجّه في دار للمسنين، أو أراد تقسيم أدوار الرواة فالعجوز يتحدث عن النكبة وما بعدها، و«صابر» يتحدث عن الانتفاضة وهموم جيله، و«أبا محمد» يتحدث عمّا قبل النكبة. والحاجة «صالحة»، المرأة الحنون الوفية التي نفتقدها هذه الأيام. وشخصية «دلال» التي أحبها «صابر» بكامل مشاعره وبادلته الحب وتخلّت عن أشياء كثيرة بسبب حبها لـ«صابر». وشخصية «الحلاق» الذي لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة، وشخصية «عرفات اللداوي» الجار الوفي… إلى ما هنالك من شخوص ثانوية أضفت للرواية جمالاً في حوادث متعددة.
زمن الرواية هو زمن النكبة، وانتفاضة عام 1987 فيروي الكاتب سنوات الانتفاضة والعجوز يروي عن النكبة وما بعدها، لتنتهي حوادث الرواية عام 1993، أي زمن توقيع اتفاقية أوسلو. ويستخدم الكاتب أسلوب الاسترجاع للرواية، فوجود «صابر» في المصحة العقلية هو الراهن الذي انطلق منه «صابر»، أي أنه يبدأ من النهاية ثم ينتقل إلى العوامل التي أدت إلى وجوده في تلك المصحة، كذلك حين التقى العجوز وفاز بثقته. يلجأ العجوز إلى أسلوب الاسترجاع في سرد حكايته منذ النكبة حتى لحظة الكلام. والجدير ذكره أن الكاتب يراعي ارتباط الحدث بما قبله وما بعده وما زامنه، ضمن إطار الاسترجاع. فجمع مع وقت الحضور حاضراً آخر أو الماضي ونجح في وهب الحدث بعده الكامل ووصفه الملائم، عارضاً إيّاه مفصلاً، كأننا نشاهده أمامنا بتفاصيله، ما يجعل قارئ هذه الرواية في قمة الانسجام والتفاعل إذ لا تبقى حوادثها على وتيرة واحدة، بل بين صعود وهبوط مع الحفاظ على مداعبة عمق المشاعر.
يجعل الكاتب مخيم الجلزون المكان الذي تدور فيه الحوادث، إذ ولد وعاش فيه. وإذ يتحدث عن المخيم فهو الأقدر على وصف الحوادث التي شهدها المخيم زمن الانتفاضة الأولى. علماً أن المخيم هنا يرمز إلى جميع مخيمات اللجوء في فلسطين المحتلة وليس إلى مخيم الجلزون وحده. كما اختار الكاتب الأمكنة الملائمة للحدث، وللمكان بحسب متعارف عليه دلالات، فالمخيم يدل على المعاناة التي تسبب بها الاحتلال وهو يجمع الذين شردوا من فلسطين التاريخية، وهو شاهد حي على قذارة الاحتلال. وللمكان قدرة على خلق الانسجام بين الحدث والشخوص والقارئ.
أما حوادث الرواية فلا تستمر في وتيرة واحدة من الحدة إذ كانت تتراوح صعوداً وهبوطاً، بين المفرح والمحزن، المفجع والمضحك. نرى «صابر» في مواقف تبكي القارئ، ومواقف تضحكه، وأخرى تشعره بالخجل، ربما لأنه لم يقم بواجبه. نتابع الحوادث السابقة للصراع والتي تسببت به: استشهاد زوجته «دلال» أمام نقطة التفتيش، موت العجوز/ الشخصية المساندة لـ«صابر» ورفض «صابر» دفنه. ثم الحوادث اللاحقة والناتجة من ذاك، مثل سجن ابنه في قفص كي يحميه من الموت، قائلاً: «وضعته في قفص لأحميه من أخطبوط الموت الذي يختطف بأذياله الصغار والكبار، يسلبهم أرواحهم بدم بارد»، فظنّ الجيران أنه مجنون، ولذلك أُدخل إلى مصحّ للأمراض العقلية.
يتبع جزء ثانٍ