الدولة السورية ليست خطأً تاريخياً

د. وفيق ابراهيم

تستمدُّ الدولة السورية مناعتها من تاريخ عريق جعل من المستحيل على المستعمرين أن ينجحوا في إلغائها. ورغم محاولات تقليصها وتقزيمها وتمزيقها، تميزت سورية دوناً عن كلّ التلوينات السياسية الناتجة من سايكس ـ بيكو، بأنها ليست هجينة ولا مستولدة بعمليات قصيرية.

هذه الأصالة، هي من العوامل التاريخية التي حمت سورية طيلة ثلاث سنوات دموية وتدميرية وتخريبية، شارك فيها نحو ثمانين دولة جمعتها الولايات المتحدة الأميركية في حلف شياطين، لبعثرة الشرق الأوسط وإعادة برمجة دوله على نحو أميركي جديد.

لم يستجب السوري للأيديولوجيات الطارئة والمشاريع المستترة بالدين، وبدت التفاعلات التاريخية السورية أقوى من كلّ المخططات المنسوجة في ليل بهيم، وأمتن من عمليات الإفقار والتهجير. فهذه التفاعلات تتعامل مع الدين كعلاقة بين الإنسان والله وليس كوسيلة لتدمير المجتمعات والدول وإنتاج رسوم كاريكاتورية تاريخية عمرها آلاف السنين.

إنّ من يُمعن في تحليل العناصر التي تشكل مناعة الدولة السورية، يلاحظ أنّ الهجمات الإرهابية والعثمانية استهدفتها للتفكيك والتدمير، وأبرز العناصر المستهدفة هي على التوالي: الجيش والأمن، الخط القومي، الخدمات الاجتماعية، والتحالفات. وقد أدّى اجتماع هذه العناصر منذ 1970، مرحلة الرئيس حافظ الأسد وحتى 2010 في عهد الرئيس بشار الأسد ، إلى استيلاد دور إقليمي فاعل ومتقدم لا يوازي الإمكانات المتواضعة للدولة السورية اقتصادياً. إنّ التلازم بين السياسة والاقتصاد حقيقة علمية، لكنّ سورية تشكل استثناء وهي تشبه الأب الذي يمارس هيمنة على أولاده حتى ولو كان متواضع الإمكانات. هذا هو المقصود بمناعة التاريخ.

وهكذا نرى كيف جرى استهداف الجيش السوري بإصرار على تفكيكه بثلاثة عوامل: المال لشراء الظباط لكي يعلنوا انشقاقهم عن الجيش، والإعلام لتضخيم ظاهرة الانشقاق، والفتاوى الدينية المباركة لهذه الانشقاقات، وهي فتاوى شيطانية صادرة من جوف وهّابيين حاقدين.

وأظهر فشل ظاهرة الانشقاقات، مدى تماسك الجيش السوري الذي يعبّر عن تفاعل اجتماعي قوي جداً بين أبناء الريف بشرائحه الفقيرة من كلّ المذاهب والطوائف، وقد قدّم هذا الجيش، بمناعته وبسالته، صورة حقيقية عن تاريخ الدولة السورية، وذهبت آلاف «الأفلام الإعلامية» المفبركة عن انشقاقات مزعومة أدراج الرياح، وسقطت «الفتاوى الشيطانية» التي لا تمتُّ إلى الله بأي صلة. عندها، أدرك صانعو الاستراتيجيات والمخططات أنّ ما يحمي سورية هو الخط القومي فاستهدفوه براجمات شياطينهم، طارحين شعار «الأمة الإسلامية» مقابل الخط القومي، وسرعان ما انكفأوا لتبني شعار «أهل السنّة» وبدّلوا سريعاً نحو «سلفية جهادية» انتسب إليها مئات المجرمين والقتلة والمغتصبين والسفاحين الذين قتلوا المسيحيين والأيزيديين والمسلمين من كلّ المذاهب، ولم يفرّقوا بين سوري وعراقي ولبناني ومصري وأجنبي، وأصبح الذبح المجنون وسيلتهم للترويع والإبادة.

وبالنتيجة، انتصر الخط القومي المؤمن بالآخر في وجه خط الإرهاب المستظل بالدين، إلا أنّ الإعلام الخليجي والغربي والعثماني ظلّ متمسِّكاً بالتركيز على التمايزات الدينية والمذهبية، على الرغم من تراجع فائدتها، وانتقل المخططون في أنقرة والدوحة والرياض وواشنطن إلى لعبة تدمير الطبقة الوسطى السورية التي تُعتبر الداعم الأساسي للدولة، وبما أنّ التعليم والطبابة والإسكان الشعبي والمواصلات عناصر رئيسية في تشكيل هذه الطبقة، وبالتالي تأمين استقرار النظام السياسي، باشروا عمليات تدمير منهجية للمدن والقرى، ما أدى إلى تهجير قسري ارتدى لبوس نزوح، وهو تهجير متعمَّد لفئات واسعة من السوريين إلى داخل البلاد وخارجها، ولم يوفروا البنى التحتية من مياه وكهرباء ووقود فدمَّروها، محاولين القضاء على كلّ مظاهر العيش، حتى في الحدود الدنيا، في مسعى شيطاني لكسر علاقة الدولة بالمجتمع، ما يؤدي إلى تدميرها وإفنائها.

رغم ذلك كله، لا تزال الدولة السورية المستندة إلى جيش متماسك وقوي وتأييد شعبي، توفر الحدّ الأدنى من مقومات تأمين الاستقرار الاجتماعي للمواطنين، وإنّ مظهر المدن والقرى التي تتعايش مع حروب التدمير، دليلٌ يَصْعَق الشرق والغرب، ومؤشر ساطع يعجز المتآمرون عن تحليل أسبابه… إنه التاريخ أيها الأغبياء.

ظهرت سورية بعد ثلاث سنوات مرعبة، بصورة البلد الاستثنائي بكلّ المواصفات والمقاييس، بلد يدافع عن مجتمعه ودوره وقيمه الحضارية، في وجه «المغول الجدد» الذي يهاجمونه من كلّ الاتجاهات، وهذا ما أدى إلى يأس أصحاب المخططات، فلجأوا إلى البند الأخير، وهو ضرب تحالفات سورية العربية والإقليمية والدولية، فجمّدوا عضويتها في جامعة الدول العربية وهي التي كانت من كبار مؤسسيها. أما إقليمياً، فحاولوا خنقها بواسطة شريرين اثنين هما تركيا و«إسرائيل»، وشاغلوها بدور لبناني سيّئ وأردني متواطئ، ضاغطين على العراق لمنعه من دعمها.

ولم تنجُ إيران من ضغوطات خانقة لكسر تحالفها مع دمشق الأسد، لكنها وقفت بجانب خيارات الشعب السوري إلى حدود الدفاع عن أسوار دمشق بالحرب، وكذلك روسيا التي اعتبرت أنّ خط الدفاع عنها يبدأ من بلاد الشام، فلم تنفع إغراءات آل سعود لقيصر الكرملين في فكّ عرى هذا التحالف القوي.

وفي المحصِّلة، يتبيّن أنّ سورية ليست خطأً تاريخياً نتج من أقلام ديبلوماسيين اخترعوا في الحرب العالمية الثانية كيانات وحدود معظم دول المشرق العربي، إنما مكون تاريخي يرمز إلى تفاعلات منتصرة أسّست في بلاد الشام حضارات قلّ نظيرها.

وفيما يواصل السوريون الدفاع عن بلدهم، يستمرُّ المخططون في محاولات التدمير، ولا بدّ أن يسجل التاريخ انتصار سورية على أعدائها في خاتمة الأمر، ولو كره الكارهون والإرهابيون والوهّابيون في مشارق الأرض ومغاربها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى