شهيد لبنان والكرامة… الرئيس عمر كرامي
د. سلوى خليل الأمين
جاء رحيل الرئيس عمر كرامي عن مسرح الأحداث في وطنه لبنان في الزمن الصعب المحتاج لأمثاله، لقد استسلم للموت هو المؤمن بقضاء الله حين الموت حق بالرغم من مرارة الفراق. لهذا أسلم الروح لباريها بهدوئه المعتاد، تاركاً قلبه الجريح مع وطنه لبنان الغافية عيونه عن لمعات الضوء، التي أرادها الراحل الكبير، شهيد الكرامة، شعلة مسيرة سياسية وطنية متخمة بالمواقف الجريئة والبيانات الصريحة التي لا لبس فيها، فهو الذي حضن مضامين الحق والحقيقة في قلبه وضميره، مبتعداً عن الباطل وأزلامه، بحيث لم يأنس لمسار الدهور المشبعة بخزائن الأموال الملوّنة بهدر الكرامات المهدورة على مذابح الشرف الوطني، وهو سليل أسرة وطنية تاريخها عابق بالمكرمات الوطنية، والأهواء القومية، والعروبة المتأصلة أباً عن جدّ، والمتمنطق بمحتدّ أصيل رفعت بيارقه إلى عنان السماء، وبأرومة ضربت جذورها في أعماق التاريخ، عبر فضائل وشمائل ما عرفت الارتهان، ونضالات لم تتلوّث بالخيانات، والتزام بعروبة هي الإيمان الصحيح بالقدر المرسوم على أعنة الشهامة العربية الثابتة على احترام القيم والمبادئ.
فلم يكن الرئيس الشهيد عمر كرامي… رجل سياسية عادياً في تاريخ لبنان، فهو ابن المفتي الطرابلسي العربي الرئيس عبد الحميد كرامي، الذي ورّث الأبناء من الرئيس الشهيد رشيد إلى الرئيس الراحل عمر، حبّ الوطن والعمل بإخلاص ووفاء من أجل الثبات على الشمم والقيم، فكانت صفات الزعامة الحقيقة هي الصورة المضيئة في مسيرتهما المحافظة على مشهدية هذا البيت العريق، الكريم، الوطني، والعروبي، فالأبناء لم يخونوا الأمانة، بل تمسّكوا بالثبات الوطني والقومي وعدم الانحناء والخضوع، بالرغم من كلّ الأعاصير والمطبات التي واجهتهما إبان توليهما رئاسة الحكومة، وعلى الأخصّ الرئيس عمر كرامي، فمَن من اللبنانيين لا يعرف حجم الضغوط والعثرات التي تعرّض لها إبان توليه رئاسة الحكومة من خيانة ذوي القربى وظلمهم، الذي جعله يتخذ المواقف المشرّفة ويلوذ بالصمت المجلّل بالصبر، لأنه كان مؤمناً بقوله تعالى: «إنّ الله مع الصابرين إنْ صبروا».
لقد كان يعلم أنّ الزمن الذي هو فيه، هو زمن المراوغات والخداع والقهر والتعدّي على الحقوق الوطنية والقومية، ومع هذا لم تلن له شوكة، ولم ينكسر له رمح، بل بقي منتصباً في الساح، كلمته كالسيف البتار في ساحة الوغى، يهزّ به الضمائر الملتبسة والعقول الصدئة، محاولاً إيقاف حالات الضعف والخنوع، عند كلّ من كان همّه خيانة الوطن والارتهان لسارقيه والفاسدين وتجار الغفلة، عبر قدسية مسيرة شعارها الانتماء الحقيقي والصحيح إلى لبنان والعروبة وقضية فلسطين، فهو الحافظ للإرث الوطني، المؤتمن على الوعد والعهد، حتى حين خذلته الناس في عقر داره، بسبب المال السياسي، الذي لم يتمكّن من صناعة زعامة أصيلة وقيادة وطنية، وهذا ما رأيناه وشاهدناه ونحن نراقب، عبر محطات التلفزة المحلية، مراسم الجنازة الوطنية للرئيس عمر كرامي، التي شارك فيها كلّ الوطن بكلّ أطيافه وفئاته ومناطقه، إثباتاً أنّ الحقيقة لا تموت في لبنان، وأنّ الناس الذين شيّعوه إلى مثواه الأخير بكلّ الحبّ والولاء والندم والاستغفار، قد أعلنوا اعتذراهم العلني من هذا البيت الأصيل، الذي حماهم في أيام الشدة، ورعاهم في أيام البؤس والشقاء، وحافظ على كراماتهم من الذلّ والارتهان، وانتشلهم من مهاوي العمالة والخيانة والفتنة التي اشتغل عليها كلّ من نزع عن مدينة طرابلس صورتها النضالية والعربية المشرقة، فهو الذي لم تغره ثروات النفط، ولم تدخله في بازارات الحصول على موقع نيابي، لأنّ النيابة في قاموس عمله اليومي والشعبي كانت تكليفاً وليست تشريفاً، والغاية خدمة الوطن بإخلاص وشرف وتضحية ووفاء لمدينته طرابلس ووطنه لبنان ولقضية فلسطين والناس أجمعين.
إنّ الرئيس الراحل عمر كرامي، هو شهيد الحق والحقيقة الثابتة، رحيله في الزمن الصعب شكل لتاريخ لبنان مشهديات من الهذيان والندم وعذاب الضمير، أصابت كلّ من أساء إلى مسيرته وتارخ عائلته العريق بأن طبعت في العقول الصدئة عذاب الضمير عند كلّ من عاقبه الدهر بمواسم القحط الفكري والوطني من خلال التآمر على بيع الوطن وطمس زعاماته الحقيقية، هذا الوطن الذي جعلوه يمشي على رؤوس أصابعه في سوق النخاسة، بعيداً عن الأدهار التي رسمت اغتيال لبنان في مجده وأصالته وعراقة عائلاته ورموزه الوطنية، من خلال أهداف مرسومة عند دول الاستكبار العالمي وزمرهم من حكام هذه الأمة وعملائهم الجدد الذين كانوا الأدوات البخسة من أجل تنفيذ المخططات الصهيونية الجهنمية، الهادفة إلى السيطرة على لبنان ومنطقة بلاد الشام من أجل بقاء فلسطين رهينة دولة «إسرائيل»، وعبر تهجير شعوب المنطقة من المسيحيين والإيزيديين عبر عنصرية داعشية قاتلة، وعبر خلق زعامات طفيلية لا تدرك المعاني العظيمة لكرامة الوطن وناسه، لهذا كان الألم المستمرّ يطبع مسيرة الرئيس عمر كرامي وهو يشهد نهبهم وتمزيقهم للوطن وإفسادهم للناس بمال غزير مصادره معروفة وغاياته مرسومة، إضافة إلى تألّمه من حدوث الفتنة المذهبية بين المسلمين أنفسهم، التي لم يستسغها يوماً البيت الكرامي… ولم تكتب في سجلات تاريخهم السياسي العريق.
لقد اغتالوا الرئيس عمر كرامي منذ أمد بعيد، لأنه الزعيم اللبناني العريق في وطنيته وعروبته، الذي لم يرتهن للأوامر الآتية بالتواتر في الزمن الرديء، ولأنه لم يسع يوماً إلى احتكار كرسي رئاسة الحكومة كحق ثابت لأسرته أو كإرث طبيعي، لهذا لم يتخلّف يوماً عن تقديم استقالته حين رأى الوضع اللبناني المأزوم يتطلّب ذلك في ساعة الحقيقة الوطنية. فالكرسي ليست غايته ومطلبه، والرئاسة والنيابة ليستا من مطامحه، لأنّ الوطن في أجندته فوق الجميع، بحيث لم يسع يوماً إلى مركز يعطيه ثروة تعجز عن خزنها كبريات المصارف اللبنانية والعربية والعالمية. فالعراقة والوطنية لديه ليست بتكديس الثروات ونهب مال الشعب وتعميم الفساد وشرعنته، كما حصل مع غيره ممّن تولوا سلطة ليسوا أهلاً لها.
هذه المواقف المشبعة بالمفاجآت القاهرة سبّبت له الألم على الوطن الذي أراده صفحة مشرقة ومضيئة في تاريخ الأمم والأوطان.