البُعد الأخلاقي للسياسة الروسية الجديدة
فارس رياض الجيرودي
استخدم الغرب مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية وشعار الحرية بمفهومها الليبرالي الضيّق، كغطاء أخلاقي غلّف به سياساته واستراتيجياته القائمة على التدخل في الشؤون الداخلية للدول الوطنية حول العالم، وذلك عبر جملة من الممارسات التي تتناقض مع القانون الدولي، بدءاً من ممارسة العزل وفرض العقوبات، وصولاً إلى هزّ استقرار الدول وحتى ضرب وحدة المجتمعات حول العالم إذا اقتضى الأمر، كلّ ذلك بهدف إعادة تشكيل العالم ورسم خرائطه وتوازناته، بما يتلاءم مع المصالح الإمبريالية الغربية.
واعتمد الغرب في تنفيذ أجندته تلك على جاذبية النموذج الحضاري الغربي، وعلى اللعب على الهويات ما دون الوطنية، الإثنية والطائفية والعرقية. ولعلّ أبرز النجاحات التي حققتها الاستراتيجية الغربية، سابقة الذكر، أنها كانت أحد أهمّ العوامل التي أدّت إلى تفكيك ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي إلى جانب ما كان يحمله المشروع الشيوعي في ثناياه من نقاط ضعف . فقد أشاع الغرب في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، خلال ما يُعرف بحقبة يلتسين الليبرالية، نوعاً من الفوضى المنضبطة والتي تمكن عبرها من تنفيذ إحدى أكبر عمليات النهب في التاريخ، وتقدَّر الأموال الروسية التي انتقلت إلى البنوك الغربية في المرحلة «اليلتسينية» التي تضعضعت خلالها الدولة الروسية ومؤسساتها، بحوالي 3 تريليون دولار. وتُسمَّى تلك الأموال في الغرب بـ»أموال المافيا الروسية»، وشملت عملية تهريب الأموال الناتجة عن الفساد الحكومي وعمليات تهريب الثروات الطبيعية الروسية، وصولاً إلى بيع الأسلحة السوفياتية ومعدّات الفضاء. وتابع الغرب بعد ذلك استثمار دعوات الحرية وحقوق الإنسان لشرعنة عملية محاصرة ومعاقبة الدول الخارجة عن إرادته والتي تصرُّ على استقلالها الوطني، والتي تمّ تصنيفها كدول مارقة، كما استخدم ادعاءاته الأخلاقية تلك المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في إثارة ما عُرف بالثورات الملوَّنة التي هدف من خلالها إلى استكمال الطوق حول روسيا، وعاد ليستغل شرارات الامتعاض التي انطلقت في العالم العربي ضدّ أنظمة الحكم الفاسدة والمترهلة التابعة له، ليحولها إلى «فوضى خلاقة» تحت مُسمَّى «الربيع العربي»، وهو مصطلح أطلقته الصحافة الغربية.
وفي الحالة العربية كان اللعب على عواطف الشعوب واضحاً، حيث جرى استغلال فساد النخب المثقفة العربية وتبعيتها، لتحديد أولويات الثورات العربية، فاستبعدت قضية استقلال القرار الوطني والتحرّر من التبعية للغرب، وهي القضايا الأساسية التي تعيق تطور الدول الوطنية في العالم العربي، واستبدلت بقضية تداول السلطة وبالإجراءات الديمقراطية الليبرالية الشكلية، والتي صُوِّرت على أنها الحلّ السحري لكلّ مشاكل العالم العربي. وبذلك تمّ توجيه الغضب الشعبي نحو مؤسسات الدولة الوطنية الجيوش والأجهزة الأمنية ، لأنها شكلت العقبة الحقيقية في وجه تمرير مشاريع الفوضى، فتحولت الحالة الثورية إلى نوع من الشعوبية المنفلتة التي تعمل على هدم بناء الدولة الوطنية، عوضاً عن إصلاحها. وبالإضافة إلى كلّ ذلك، لعب الغرب على وتر الهويات ما دون الوطنية في المشرق العربي بهدف ضعضعة استقرار المجتمعات، وكانت نتائج الممارسات اللامسؤولة لتلك السياسة كارثية، ليس على أمن المنطقة فحسب، بل على الأمن العالمي بما فيه أمن المجتمعات الغربية نفسها، حيث تغوَّلت التنظيمات الإرهابية وأصبحت تهدّد كلّ بقعة على وجه الأرض، وذلك بعدما امتلكت قاعدة جغرافية في قلب العالم وفي أهم منطقة فيه من الناحية الاستراتيجية.
على الضفة الأخرى، ترفع روسيا العائدة إلى المسرح السياسي العالمي، بعد إتمام عملية إعادة ترميم الدولة الوطنية فيها، شعار الالتزام بالقانون الدولي واحترام استقلال الدول، ورفع الشرعية عن عمليات التدخل في شؤون الدول الوطنية الداخلية بحجة دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يعني وقف العربدة الغربية التي مورست من دون ضوابط في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. بالإضافة إلى ذلك تُشهر روسيا مبدأ الحفاظ على استقرار المجتمعات ومحاربة الإرهاب ودعم الجيوش الوطنية في مواجهته، وتمَّت ترجمة تلك الشعارات بوضوح في الحالة السورية، فدعمت موسكو الدولة السورية سياسياً وعسكرياً في وجه التدخلات الغربية السافرة، كما تعمل اليوم على ترجمة ما سبق عبر مبادرات التسوية لحلّ النزاعات والصراعات المحلية، وذلك بهدف فرملة عملية ضرب وحدة المجتمعات المحلية التي عملت عليها الاستراتيجيات الغربية.
وتكتسب الدعوة الأخلاقية الروسية صدقيتها من تجربة مريرة خاضها الكيان الروسي نفسه، عندما تعرض لواحدة من أكبر عمليات النهب في التاريخ، كما ذكرنا، وبالحُجج ذاتها التي ما زال الغرب يستخدمها اليوم، ولا يحتاج المواطن العادي حول العالم سوى إلى مراجعة الماضي الاستعماري للغرب خلال الـ 300 سنة الماضية وتحالفه مع أعتى الديكتاتوريات في العالم ومع أكثر الأنظمة تخلفاً في العالم الثالث خلال القرن العشرين، حتى يكتشف زيف الادعاءات الغربية.
من هنا يتضح سرّ التلاقي الروسي مع دول تتمسّك باستقلالها الوطني في وجه العربدة الغربية كسورية و إيران ودول أميركا اللاتينية، وبسبب ما سبق يسهل على الرئيس بوتين تسويق معركته مع الغرب في الداخل الروسي ولدى المواطنين الروس، وإنّ دعم صمود الدول الوطنية المستقلة حول العالم في وجه تسلط الغرب، ليس في الواقع سوى استثمار يحمي روسيا وأمنها القومي من النهم والجوع الغربي لممارسة السيطرة والنهب، وهو النهم الذي أثبتت التجربة التاريخية أنه بلا حدود.
كاتب سوري