هل التفاهمات ممكنة مع الولايات المتحدة؟

زياد حافظ

في مقاربة سابقة أشرنا إلى إمكانية إجراء «تفاهمات» إقليمية ودولية حول مجمل الملفات وذلك بدلاً من «تسويات» اعتبرناها صعبة، لأنه ليست هناك أيّ مصلحة لأطراف الصراع الدولي والإقليمي التقيّد بتسويات طالما الاعتقاد السائد عندها أنه بإمكانها الانتصار على الطرف الآخر! فـ»التسوية» تكون بين أطراف متوازنين في القوة والإرادة ووصلوا إلى قناعة في عدم جدوى استمرار الصراع، بينما واقع الحال، هو الاعتقاد بعكس ذلك وفقاً لتقدير الموقف عندهم.

وبالفعل فإنّ منسوب التفاؤل حول الوصول إلى «تفاهمات»، وهي أقلّ من «تسويات»، في الملفّات الساخنة في المنطقة ارتفع بشكل ملحوظ خلال الأشهر الثلاثة الماضية. فهناك مؤشرات عديدة تدلّ على الوصول الى «تفاهمات» خاصة بين الجمهورية الإسلامية في إيران والولايات المتحدة في الملفّ النووي وما يمكن أن ينسحب على الملفّات الأخرى. لا داعي لاستذكار تلك المؤشرات فقد تناولها العديد من المحلّلين والمراقبين سواء كانوا من أبناء المنطقة أو دوليين.

لكن هناك مقاربات تفيد أنّ حتى «التفاهمات» قد تكون بعيدة المنال وأنّ عام 2015 قد يشهد المزيد من التوتر والتصعيد بين الأطراف المتصارعة و/أو المتحاربة بشكل مباشر أو غير مباشر. فهناك مؤشرات قد تكون مقلقة للبعض تفيد أنّ الولايات المتحدة غير معنية بإجراء ما يلزم للوصول إلى إبرام اتفاق نهائي حول الملف النووي وحتى الملفّات الساخنة الأخرى في المنطقة. ففي الأروقة الأميركية داخل الإدارة وخارجها هناك من يعتبر أنّ الوضع الحالي في المنطقة لا يزعج الولايات المتحدة، وبالتالي لا ترى أيّ مبرّر للمضيّ في التفاهم مع إيران لأنها حصلت على ما تريده منها بأقلّ كلفة ممكنة.

فالباحث والأستاذ الجامعي مايكل برينر من جامعة بيتسبورغ الأميركية على موقع هفنغتون الإلكتروني الواسع المتابعة بين النخب الأميركية، والصحافي المستقلّ غارث بورتر على موقع «عين الشرق الأوسط»، يعتبران أنّ الولايات المتحدة لن تدفع بعجلة التفاهمات في الملفّات الكبيرة استناداً إلى قراءتهما لتصريحات مسؤولين كبار في الإدارة وفي العديد من خزّانات الفكر الأميركية. ويعتبران أنه قد تمّ تجميد البرنامج النووي الإيراني، حسب وجهة نظر المسؤولين في الإدارة، من دون اللجوء إلى رفع العقوبات. والكيان الصهيوني يعتبر أنّ تجميد البرنامج النووي كاف في هذه المرحلة ولا يستوجب تقديم أيّ تنازلات بل المطلوب الاستمرار بالضغط على إيران للجمها ومنعها من الانصراف إلى مشاريع تنموية تحصّن نفوذها في المنطقة.

هذه الرؤية تدلّ بشكل واضح أنّ الإدارة الأميركية لم تكن جادة في أيّ يوم من الأيام للوصول إلى تسوية أو حتى تفاهم. تعتبر الإدارة أنّ الوضع الحالي مريح لها وأنه سيستمرّ إلى أجل غير مُسمّى وأنّ الجمهورية الإسلامية لا تستطيع أن تفعل شيئاً وأنّ العقوبات المفروضة «ناجحة» وستؤدّي في آخر المطاف إلى المزيد من التنازلات.

هذه النظرة الجامدة للمشهد السياسي الإقليمي تعتبر أنّ الرغبات الأميركية قدر وأنه لا مجال لردّ فعل يقلب الطاولة على الجميع. والولايات المتحدة تعتقد بأنّ العقوبات المفروضة على كلّ من إيران وروسيا والمقرونة بانخفاض سعر النفط يحرّرها من اتخاذ أي خطوة نحو تسوية أو حتى تفاهم. فالوقت يلعب لمصلحة الولايات المتحدة وليس لمصلحة خصومها الدوليين وأو الإقليميين حسب الاعتقاد السائد عند صانعي القرار الأميركي.

ويعتبر غارث بورتر أنّ المسؤولين في الإدارة الأميركية يقلّلون من دور إيران في الملفّات الساخنة كالملفّ العراقي أو السوري أو اللبناني وحتى الصراع السنّي الشيعي، خاصة أنّ تمدّد «الدولة الإسلامية ـ داعش» يبدو قد توقّف أو تباطأ بشكل يزيل الخطر وأيّ تهديد لمصالح الولايات المتحدة. فهي ما زالت تقوم بدور وظيفي لمصلحة الولايات المتحدة بأقلّ كلفة ممكنة كاستنزاف الدولة في سورية والعراق وإلهاء كلّ من حزب الله في معارك بعيدة عن الكيان الصهيوني. بل هناك قناعة لدى الإدارة الأميركية أنّ «الدولة الإسلامية ـ داعش» لا تعتبر الولايات المتحدة أولوية والوجوب إلى ضربها لإخراجها من المنطقة. وتشير التقارير أنّ الهوّة بين تنظيم «القاعدة» و«الدولة الإسلامية» في تحديد الأهداف الاستراتيجية كبيرة للغاية مما «يطمّئن» إذا جاز الكلام دوائر القرار في الولايات المتحدة.

أما على صعيد الملفّين السوري والعراقي فلا ترى الولايات المتحدة أيّ موجب للتحرّك وإنْ كان هناك من يحرّض داخل الولايات المتحدة على دور عسكري أكبر ولمدى طويل في العراق. وتنشر مجلّة «فورين بوليسي» سلسلة من المقالات والآراء حول ضرورة التخطيط للعودة إلى العراق ولفترة طويلة غوبال راتنام في عدد 7 كانون الثاني 2015 . ويعتبر الباحث أنّ وجود قوات عسكرية أميركية لفترة طويلة هو ضروري لمنع تقسيم العراق ولفرض تسوية بين مكوّنات المجتمع العراقي! يتجاهل الكاتب الدور الأميركي في الوصول إلى الاقتتال الطائفي والمذهبي والعرقي في العراق بينما يروّج للدور المصلح بين العراقيين! طبعا كلّ ذلك يعني تجاهل دور إيران وكأنها غائبة عن المسرح، وأهمّ من ذلك تجاهل رغبة وطموح العراقيين أنفسهم.

هذا دليل على الذهنية الموجودة في دوائر تحضير الرأي العام لمغامرة جديدة شديدة الكلفة. ونلفت النظر إلى أنّ المجلّة تابعة لمجموعة إعلامية يملكها روبرت مردوخ صاحب الميول الصهيونية وقريب من المجمع العسكري الصناعي والمالي في الولايات المتحدة.

ونشير هنا أيضاً إلى تقارير مصدرها مراكز أبحاث كندية تفيد أنّ مجموعة المحافظين الجدد ما زالت متحكّمة بمفاصل صنع القرار في الولايات المتحدة.

ويعتبر الأستاذ الجامعي رودريغ ترمبلاي على موقع العولمة أنّ عام 2015 سيشهد المزيد من التوترات العسكرية والأمنية والاقتصادية تنفيذاً لرغبات المحافظين الجدد. لا ننسى أنّ فيكتوريا نيولاند، مساعدة وزير الخارجية الأميركي والمسؤولة عن شؤون أوروبا وآسيا هي زوجة روبرت كاغان أحد كبار المنظّرين للمحافظين الجدد. كما نذكّر بدورها في إطلاق الأزمة الأوكرانية واعترافها بأنّ الولايات المتحدة صرفت ما يوازي خمسة مليارات دولار في أوكرانيا لإخراجها من دائرة النفوذ الروسية.

لا ترى الولايات المتحدة أيّ ضرورة للضغط على الرئيس التركي أردوغان لإقفال الحدود مع سورية ومنع تدفّق المال والمسلّحين إليها. كما لا ترى أيّ مبرّر للضغط على المملكة العربية السعودية للعزوف عن خطابها التحريضي ضدّ سورية ودعمها المالي والمادي للمتطرّفين في بلاد الشام والرافدين وحتى ربما في أوروبا الغربية رغم التصريحات للمسؤولين في المملكة حول «خطر الإرهاب». إنّ تصريح نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن حول دور تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية لم يُترجم إلى أفعال ضدّ تلك الدول التي تدعم المسلّحين المتطرّفين في المنطقة. كما أنّ طبيعة التدخّل الأميركي العسكري في العراق وبعض المناطق السورية لا يتجاوز الاستعراض العسكري وكأنها موجودة فقط للحفاظ على ماء الوجه! ما زالت «الدولة الإسلامية ـ داعش» تصدّر النفط تحت سيطرتها عبر تركيا وكأنّ الأقمار الاصطناعية لدى الولايات المتحدة لا تستطيع رصد قافلات النقل النفطي من سورية إلى تركيا فلا تغير عليها!

ويتساءل مايكل برينر: لماذا تستمرّ الولايات المتحدة في اتباع سياسة التناقضات؟ ففي تقديره كما أشرنا أعلاه أنه طالما المصالح الحيوية الأميركية غير مهدّدة فلا داعي على الأقلّ في المرحلة الراهنة للتحرّك. أما السبب الثاني فالصراع القائم في المنطقة يخدم «إسرائيل» وهذا ما يردّده العديد من وسائل الإعلام العربية والغربية. ولكن في رأينا أنّ هناك سبباً آخر هو عجز الإدارة الأميركية الحالية، وقد نقول أي إدارة أخرى مكانها بتقديم رؤية واستراتيجية واضحتين. فالرغبات والتمنّيات لا تشكل رؤية واستراتيجية بل تجسيداً لحالة إنكار لواقعها المتراجع وإرباك بسبب فقدان التوازن بين القدرات الفعلية والأهداف المرسومة.

الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي كانت تغطّي العورات في البنية السياسية الأميركية حيث كانت الجهود منصبّة لهزيمة الاتحاد السوفيتي، فكان العالم منبهراً بقدرة التخطيط والتنفيذ للولايات المتحدة متناسياً أنّ الولايات المتحدة هُزمت على الأقلّ مرتين في آسيا: الأولى في حربها غير المباشرة على الصين في كورية وبتكليف أممي أدّى إلى «تعادل ميداني» فتقسيم كوريا، وفي فيتنام حيث مُنيت بهزيمة نكراء بكلّ معنى الكلمة. وقد نضيف إلى ذلك الهزيمة السياسية في كلّ من أفغانستان والعراق. أما اليوم وقد ظهرت إرهاصات التراجع فالأفول السابقة للانهيار، فلا ندري لماذا تستمرّ النخب العربية في الانبهار بالقدرة الأميركية؟

أمين عام المنتدى القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى