قراءة المشهد الفلسطيني في عام 2014 1/3
رامز مصطفى
رحل عام 2014 تاركاً وراءه أحداثاً، منها ما ورثه من العام 2013، ومنها ما شهدته أشهره الـ12. ولم يرق له الرحيل في يومه الأخير إلاّ أن يترك بصمته الأخيرة لتكون الشاهد أولاً على سقوط ما سُمّي بالمشروع «الفلسطيني العربي»، الداعي إلى إنهاء الاحتلال «الإسرائيلي» وإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وثانياً على الولايات المتحدة الأميركية التي تثبت يومياً أنّ إدارتها لا يمكن أن تكون راعياً نزيهاً ومؤتمناً على حلّ القضايا العالقة في المنطقة والعالم، والقضية الفلسطينية وعلى مدار 66 عاماً الشاهد الحي على عدم هذه النزاهة، بل وكونها أكبر دولة غاشمة في هذا الكون. وثالثاً على كيانٍ اغتصب الأرض الفلسطينية والقتل والحديد والنار. فها هي حكومة نتنياهو بإرهابها وعنصريتها تمارس أبشع المجازر بحق البشر والحجر والشجر على الأرض الفلسطينية دونما حسيب أو رقيب، بل هناك من يحميها من المساءلة عن جرائمها التي ارتكبتها وترتكبها بحق الفلسطينيين.
رحل العام 2014 ولا زالت منطقة الشرق الأوسط بأحداثها وتطوراتها تتصدّر المشهد العالمي على ما عداها من أحداث وتطورات سواء في أوكرانيا، أو وباء «فيروس إيبولا» السلاح البيولوجي الخطير. لم تشهد المنطقة بدولها مثيلاً لهذه الأحداث على مدار عقود قد مرت. والمؤكد أنّ المخاض الذي عملت عليه الإدارة الأميركية تحت عنوان «الشرق الأوسط الجديد»، لا جديد فيه إلاّ التحريض على الاستثمار في الصراعات العرقية والمذهبية والطائفية والإثنية لخلق المسوغات لوجود «الدولة القومية للشعب اليهودي» أو ما بات هدفاً لمطلب أميركي «إسرائيلي» ألاّ وهو الاعتراف بـ«يهودية الدولة». ومن ثم الإيغال عميقاً في السطو على مقدرات شعوب المنطقة وثرواتها الوطنية، والنفط والغاز في الأولويات منها، بدلاً من الاستثمار في التنمية البشرية والاقتصادية، والرفاه الاجتماعي، والقضاء على البطالة والأمراض المستعصية والمزمنة.
هناك إجماع وتوافق من خلال رصد وقائع ومجريات الأحداث والتطورات التي تعيشها العديد من دول المنطقة، على أنّ الهدف الأميركي «الإسرائيلي» من وراء هذه الأحداث، لا سيما ما تشهده سورية، هو الاستفراد بالقضية الفلسطينية وصولاً إلى تصفيتها وبكلّ عناوينها، والتي هي بالأساس قد بُدء العمل عليها منذ التوقيع على «اتفاقات أوسلو» عام 1993، وما تلاها من سياق سياسي طويل ولا يزال من الرهانات البائسة على مفاوضات ثبُت عقمها وعبثيتها، ومن ثم على إدارة أميركية لطالما اشتكى القيمون على السلطة ورئيسها في مقدمتهم من سلوك غير أخلاقي لهذه الإدارة ورئيس دبلوماسيتها من الانحياز، بل وممارسة الضغوط لتمرير الرؤى «الإسرائيلية» بما يتعلق بموجبات التسوية وما سينتج عنها من اتفاقات.
إنّ العام 2014، كما العام 2013، شهد استمرار حالة تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ولعل الحرب «الإسرائيلية» الأخيرة على قطاع غزة لمدة 51 يوماً، كانت كافية للتدليل على مدى تراجع هذا الاهتمام وتحديداً في الواقع العربي، ومن ثم ما تشهده مدينة القدس والمسجد الأقصى من تهويد واستباحة من قبل الاحتلال والمستوطنين الصهاينة في ظلّ صمت مطبق في الواقعين العربي والإسلامي دليل إضافي على أنّ القضية في حالة التراجع التي فرضتها أولاً تطورات وأحداث المنطقة، ونجاح الإدارة الأميركية وحلفائها وأدواتهم الوظيفية في حرف الشارع العربي ونقله إلى خارج سياق التزامه بخياراته وتوجهاته في الوقوف متصدياً للدفاع عن قضايا الأمة، واستخدامه للأسف حطباً في النار التي أشعلتها أميركا في المنطقة تحت مسمّى «الربيع العربي». وثانياً ما تعانيه الساحة الفلسطينية من حالة الانقسام الحاد منذ العام 2007، على الرغم من الاتفاقات على إنهائه وليس أخر هذه الاتفاقات «اتفاق مخيم الشاطئ» في الثالث والعشرين من نيسان العام الفائت. ليشكل هذا الانقسام ذريعة لدى الكُثر من النظم العربية للتهرّب والتخلي عن مسؤولياتهم اتجاه القضية وأبنائها ومقدساتهم.
والمشهد الفلسطيني في العام 2014 في عناوينه قد تكون من المشتركات مع عناوين المشهد عام 2013، على اعتبار أنّ العناوين الأساسية هي أصلاً مُرحّلة من العام الذي سبق. مع ما استجدّ من تطورات وأحداث شهدها العام 2014. وعناوين المشهد هي:
توقف المفاوضات وانغلاق أفقها
المفاوضات التي كانت قد استؤنفت في منتصف آب من العام 2013 بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل» برعاية أميركية بشخص مارتن أنديك، والتي قاربت على التسعة أشهر، تميّز طابعها في التسويف والممالطة التي مارستها حكومة نتنياهو، واستمرارها في عمليات الاستيطان والتهويد والاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم. قد توقفت أواخر آذار 2014، بعد أن رفض نتنياهو الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين ما قبل «اتفاقات أوسلو» عام 1993. وهي المفاوضات التي تمّت موافقة السلطة ورئيسها على استئنافها مقابل لا شيء مما ذُكر عن ضمانات أميركية مسبقة، ليتبيّن أنّ مقابل تعهّد السلطة عدم التوجه للمشاركة في الاتفاقات والمعاهدات والهيئات والمحاكم الدولية، تلتزم حكومة نتنياهو الإفراج عن أسرى ما قبل أوسلو، نقطة في آخر سطر المتفق عليه. وهذا ما لم تلتزم به «إسرائيل «، رغبةً منها ومن الإدارة الأميركية بممارسة الضغط والابتزاز على السلطة المُطالبة وفق دفتر الشروط الأميركية ـ «الإسرائيلية»، التي تلاقت عند فرض نقاط هذه التقاطعات على مفاوض السلطة، والضغط من أجل القبول بها سواء بالترغيب أو الترهيب لا يهمّ، المهمّ أن يسير بها إلى نهاية خط هذه المطالب والتي هي في حقيقة الأمر شروط إذعان واستسلام ليس إلاّ. ونقاط هذه التقاطعات جاءت على لسان كلّ من الوزير الأميركي كيري، ووزير الدفاع في حكومة الكيان موشيه يعالون. والتي من الواضح ليست تقاطعات بالمصادفة، بل أتت في سياق التنسيق اللصيق بين الجانبين الأميركي و«الإسرائيلي». على الرغم مما يظهره إعلام الكيان وبعض قياداته من انتقادات للمسؤولين الأميركيين وعلى وجه الخصوص للوزير كيري على خلفية المفاوضات وإظهار ما أسموه التشدّد حيالهم، أي «الإسرائيليين»، وممارسة ابتزازهم من أجل الموافقة على رؤيته للحلّ مع الفلسطينيين. وخطوط هذه التقاطعات هي أن يبدي أبو مازن موافقته الاعتراف بـ«إسرائيل دولة الشعب اليهودي في إطار الحل الدائم»، وقبوله إنهاء جميع الدعاوى ضدّ «إسرائيل»، ومصير حق العودة. وقبل هذه النقاط وليس ما بعدها موافقة أبو مازن على استمرار المفاوضات حتى نهاية العام 2014، وليس حتى نهاية نيسان كما كان متفقاً عليه. ومن ثم سريان مفعول التعهد الفلسطيني بعدم التوجه إلى الهيئات الدولية للانضمام إليها ومواجهة الكيان من على المنابر الدولية.
وقد ترافق مع هذه المطالب، وهي في الأصل خطوط حمراء رسمها الأميركي و«الإسرائيلي» في هجومهما على السلطة ورئيسها أبو مازن. تهديدات ليس أقلها عقوبات اقتصادية وسياسية. هذه المفاوضات التي بذلت الإدارة الأميركية بشخص رئيسها أوباما الجهود من أجل إقناع نتنياهو وحمله على الموافقة والسير بها، في مكالمة هاتفية كشف النقاب عن فحواها آنذاك، حيث طالب أوباما محدثه نتنياهو بأن هناك ضرورة من أجل استئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، على اعتبار أنها تمثل خطوة مهمة من أجل إتمام تشكيل الائتلاف الإقليمي الهادف إلى مواجهة إيران، يضمّ بالإضافة للكيان السعودية وتركيا ودول خليجية، بهدف حرمان إيران من حيازة أسلحة نووية.
توقف المفاوضات دفع رئيس السلطة والقيادة في رام الله إلى السير في اتجاهين، الأول إسقاط التعهّد بعدم التوجه إلى الهيئات الدولية بهدف الانضمام إليها، فوقّع أبو مازن الانضمام إلى 15 مؤسسة وهيئة دولية، الأمر الذي أغضب الأميركيين و«الإسرائيليين» على حدّ سواء. وفي ردّ فعل على خطوة أبو مازن زادت حكومة نتنياهو من وتيرة الاستيلاء على الأراضي في الضفة وتهويد في مدينة القدس، والسماح للمستوطنين باستباحة ساحات المسجد الأقصى وباحاته.
وقد هدّد نفتالي بينت الوزير في حكومة نتنياهو آنذاك عباس في حال توجّهه إلى المؤسسات الدولية للانضمام إليها بالقول: «نحن سنعرف كيف سنتصرف معه ونردّ عليه. ستكون لائحة اتهامه كبيرة». أما الاتجاه الثاني فهو السير في المصالحة مع حركة حماس، التي وقع معها اتفاق «مخيم الشاطئ» في 23 نيسان 2014، أي بعد شهر على توقف المفاوضات.
وكان من اللافت والمفاجئ في ما يتعلق بالمفاوضات، ما قاله الدكتور موسى أبو مرزوق في شهر أيلول الماضي، والذي فجر قنبلة سياسية من العيار الثقيل، حين صرح لقناة القدس «أن لا مانع لدى حماس أن تتفاوض مع إسرائيل. وما كان في الماضي من المحرمات يمكن أن تتمّ تسويته اليوم». وتابع: «كما تقاوم الاحتلال بالسلاح، يمكن التفاوض معه من خلال الكلمات. وأنّ الحركة قد تذهب إلى التفاوض بضغط من شعبها في غزة». وهذا الإعلان الصادم قد جاء متزامناً مع الذكرى 21 على اتفاق أوسلو في أيلول 1993، وبعد الحرب العدوانية التي شنتها «إسرائيل» على قطاع غزة في أوائل تموز 2014. وقد سارعت حركة حماس إلى نفي التصريح، مؤكدة «أن المفاوضات المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي ليست في سياساتها، وليست مطروحة في مداولاتها».
المفاوضات التي سُدّت أفقها تماماً، بسبب تعنت «إسرائيل» واستخدامها إياها لجملة أهداف، أولها مسايرة لظروف حليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة الأميركية، واستجابة لرغبته، وثانيها محاولة منها توجيه رسالة للمجتمع الدولي أنها راغبة في السلام، على أنه يمثل بالنسبة إليها خيارا استراتيجيا مع الفلسطينيين، مما يُحسّن من صورتها المهتزّة بسبب ممارساتها الإجرامية، وثالثها توظيف المفاوضات نحو المزيد من تمرير فرض وقائعها الميدانية في التهويد والاستيطان، أما رابعها محاولة إظهار السلطة وفريقها المفاوض أنها غير مؤهّلة لإنجاز تسوية تاريخية قائمة كذباً على حلّ الدولتين، وبالتالي الحصول على اعتراف فلسطيني بـ«يهودية الدولة» بعدما حصلت على الاعتراف بـ«إسرائيل» بموجب «اتفاقات أوسلو» عام 1993.
وفي المقلب الآخر لا تزال السلطة الفلسطينية عند التزاماتها في التمسك بخيار المفاوضات التي لا بديل عنها إلاّ المفاوضات والتنسيق الأمني، دون سواها، مهما بلغ مستوى الإجرام «الإسرائيلي» بحق الشعب الفلسطيني، وليس آخره إعدام المناضل الوزير زياد أبو عين أمام عدسات المصوّرين والفضائيات العالمية والمحلية.