… وانتصرت مجدّو الكنعانية على اليهودية وحلفائها
أحمد أشقر
شكَّل حقل الحفريات والأبحاث الآثارية، ولا يزال، سلاحاً سياسياً- معرفياً- إيمانياً بأيدي المجموعات اليهودية- الصهيونية والمسيحيّة التي ساندتها، منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا الراهن، من أجل شرعنة الغزو الصهيوني وتثبيت الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربيّة. هدفت هذه الأبحاث والدراسات إلى إيجاد واقع ماديّ في فلسطين، يحاكي النصّ الأسطوري الإيماني للتناخ، كتاب اليهود المقدس. لذا بذلت الحركة الصهيونية وحلفاؤها من جمعيات مسيحية مختلفة، وبعدها الكيان الصهيوني ومراكز أبحاثه في حقليْ الآثار والتاريخ جهوداً كبيرة من أجل التأكيد على هذة المحاكاة. لكن حديث حجارة وفخّار فلسطين والذهب الذي كان يزيّن جياد وصدور وأيادي الكنعانيات، بدأ صوته يعلو أكثر فأكثر منذ سبعينيات القرن الماضي ليصبح الصوت الوحيد الناطق باسم أرض فلسطين الكنعانية- العربيّة وأهلها.
شكّل تل مجدو أو تل المتسلم الواقع في الطرف الغربي- الجنوبي لمرج ابن عامر وعلى أبواب وادي عارة، مركزاً هاماً في الطريق الدولي الذي يربط مصر ببلاد الشام وتركيا، والبحر المتوسط بشرق الأردن والعراق. لذا اهتمّت القوى المتصارعة على أرض فلسطين وفيها على السيطرة على هذا التلّ وهذا المركز. يذكر التاريخ أنّ الفراعنة بقيادة تحتمس الثالث من الأسرة الثامنة عشرة، حينما استولوا على هذا التل عام 1842 ق. م حكموا فلسطين لأكثر من قرن من الزمان. وعندما استولى البريطانيون على مجدّو من أيدي العثمانيين، في نهاية الحرب العالمية الأولى، تمكنوا من هزيمتهم وبقوا فيها حتى العام 1948. وكذلك استخدم العرب واليهود التلّ في صراعهم في منتصف القرن الماضي. إضافة إلى كون وجود تل مجدو على الطريق الدولي فإنه يطلّ أيضًا على مرج ابن عامر الذي يعتبر «سلة القمح» لفلسطين، والذي تبلغ مساحته 181 ألف دونما، أكبر مساحة يمكن زراعتها بالقمح والحبوب في فلسطين. وكذلك يطلّ التلّ على مصادر المياه التي جعلت من مرج ابن عامر منطقة خصبة ومأهلولة بالسكان.
لم يفقد تل مجدو أو منطقة مجدو أهميتها منذ الاحتلال عام 1948 إلى يومنا الراهن فقد تحوّلت المنطقة التي تقع على بوابة وادي عارة الشمالية مع الزمن إلى شريان المواصلات الرئيسي الذي يربط شمال فلسطين بوسطها وجنوبها وشمال الضفة الغربية بحيفا وعكا والساحل الفلسطيني ولبنان. ولم يفقد هذا الشريان أهميته وحيويته إلا عندما قرّرت السلطات «الإسرائيلية» تجاوزه بشقّ الشارع الموازي له من الغرب المعروف بـ«عابر إسرائيل، أو شارع رقم 6»، الذي أصبح شارعاً لليهود وحدهم- تقريباً. بينما بات شريان المواصلات الأصلي: شارع وادي عارة للعرب- تقريباً.
تمّ تجاوز شارع وادي عارة بـ«عابر إسرائيل» لأسباب سياسية واضحة، لأنّ الشباب العرب في منطقة وادي عارة والمثلث الشمالي، اعتادوا على إغلاقه في كلّ ممارسة احتجاجية على قمع السلطة وسياساتها لهم. لذا عمدوا على إغلاقه وقطع شريان المواصلات الرئيسي في الكيان. وكانت آخر مرة أغلق الشباب العرب الشارع في تشرين الأول عام 2000 عندما تمّ إغلاقه كليّاً أو جزئياً مدة ثمانية أيام متواصلة احتجاجاً على المجزرة التي نفذتها السلطات بحقّ ثلاثة عشر شاباً من مواطني 48.
يفصل شارع «عابر إسرائيل، أو شارع رقم 6» بين المستعمرين اليهود وبين العرب في فلسطين. إذ يسكن في الجانب الغربي منه غالبية المستعمرين اليهود، وإلى الشرق منه يعيش غالبية عرب فلسطين.
أفادت وسائل الإعلام «الإسرائيلية» المختلفة وتلتها وسائل الإعلام العربية والأجنبية، في شهر أيّار من العام 2012، أنّ البعثة الأثريّة «الإسرائيلية» التابعة لجامعة «تل أبيب» برئاسة الآثاريّ «الإسرائيلي» الشهير والمثير للجدل، يسرئيل فنلكشطاين، عثرت على جرّة فيها كنز كنعاني يعود تاريخه إلى 3100 سنة مضت. حسناً لو بقي الخبر كما هو لقلنا إنّ الاكتشاف هو من اختصاص الآثاريين بكافة اختصاصاتهم. لكن الحيثيات التي أدّت إلى الإعلان عن هذا الاكتشاف كما ذكرها الآثاري فنكلشطاين في حديث إذاعي في ما بعد، هو الذي دعانا إلى كتابة هذه الملاحظات- المقال.
فقد أشار فكلشطاين إلى أنّ بعثته اكتشفت الجرّة في موسم الحفريات في صيف عام 2011، إلا أنّ أحداً من أفرادها لم يهتمّ بالجرّة وتمّ تسليمها إلى سلطة الآثار. وبطريق «الصدفة»- وفقط بطريق الصدفة! عندما حاول «عامل» تنظيف الجرّة أفرغها على الطاولة فنزل الكنز منها! لو كنا في مرحلة الدراسة الابتدائية قبل أن ندرس موضوع الكثافة والوزن النوعي للمواد لصدّقنا فنكلشطاين. إلا أننا نبلغ من العمر والتجربة قدرة تجعلنا نعرف أنّ وزن الجرّة المملوءة بالذهب أثقل من نظيرتها المملوءة بالتراب، ونسأل الأسئلة البسيطة التالية: هل يُعقل أنّ عالم آثار لا يميّز بين وزن جرّة مملوءة تراباً وأخرى مملوءة ذهباً!؟ وهل يُعقل أن يُسَلِّم عالم آثار جرّة مكتشفة في منطقة طريق التجارة الدولي على مرّ التاريخ إلى عامل لتنظيفها!؟ وهل يمكننا أن نصدقّ فنكلشطاين العالمُ بخلافات وصراعات الآثاريين على المكتشفات في مجدو أن يسلّم الجرّة من دون أن يفرغها!؟ ولو كنا نجهل أهداف علم الآثار «الإسرائيلي» وخلاف وصراع الآثاريين على مكتشفات مجدو لصدقنا فنكلشطاين. لكن ما العمل عندما أصبح العربيّ يشكّ بكلّ ما يقوله «إسرائيلي» حتى ولو كان عالم آثار مرموقاً وذي سمعة عالمية؟ لذا يمكن القول إنّ فنكلشطاين لم يعلن عن اكتشافه إلا بعد أن حسم صراعاً سياسياً- وليس علميّاً- مع أعضاء البعثة ممن ظلّوا على نهج يهدف إلى إيجاد محاكاة ما بين اللقيات الأثرية والنصّ التناخي.
أثار تل مجدو اهتمام الآثاريين المسيحيين واليهود من الذين أسهموا في حقل الاستعمار الثقافي، منذ بداية مشروع الاستعمار اليهوصهيوني في فلسطين، كون الاسم: مجدّو- ونقول الاسم فقط ولا نقصد عداه شيئاً- «مجدو» مذكور 12 مرة في التناخ في أسفار: يشوع والقضاة والملوك الأول والثاني وأخنوخ الأول والثاني وزكريا. ومرّة واحدة بعبارة «هرمجدون» في سفر الرؤيا المسيحي. لذا أعمّل الآثاريون معاولهم وخيالهم للتأكيد على أنّ تل مجدو الكنعاني هو الاسم – الموقع المذكور في التناخ والعهد الجديد.
يعود التنقيب الآثاري في مجدو إلى بداية القرن العشرين فقد نقبت بعثة تابعة لمعهد الدراسات الشرقية الألمانية برئاسة ج. شوماخر في 1903- 1905. كان شوماخر ينتمي إلى الفرقة العسكرية فرسان الهيكل.
وأرسل المعهد الشرقي من جامعة شيكاغو بعثة للتنقيب في السنوات 1925 – 1939 بإشراف «س. فيشر» C.S Fisher . ترأس «فيشر» البعثة في السنتين الأولى والثانية من عمرها، لكنه اضطر للعودة إلى شيكاغو نتيجة لمرض ألم به. وخلفه على رئاسة البعثة ب. ك. جاي B.K. Guy الذي واصل التنقيب حتي 1935. وخلفة في ما بعد جوردون لود G. Loud حتي انتهي التنقيب في 1939 بسبب اندلاع الحرب العامية الثانية.
بعد الاحتلال عام 1948 نقبت في المنطقة بعثة تابعة لمعهد الآثار في الجامعة العبرية برئاسة يجآل يدين 1917 – 1984 في الأعوام 1960 و1966 و1967. كان يدين جنرالاً في الجيش «الإسرائيلي» وقائداً للأركان ومختصاً في علم الآثار. أسس حركة «داش» في العام 1977 وأصبح عضو كنيست ووزيراً ونائباً لرئيس الحكومة في حياته السياسية.
كما نقب في المنطقة الآثاري «الإسرائيلي» إيتان حيفر في العام 1974.
ومنذ العام 1994 تنقب في المنطقة بعثة تابعة لجامعة «تل أبيب» برئاسة فنكلشطاين. وكانت آخر جولة تنقيب لها في صيف العام 2012.
يتكون تل مجدو من 35 طبقة- مدينة وعمره 7 آلاف عام.
تحدثت الأدبيات الآثارية «العلمية» عن مكتشفات يهودية بمجملها، إلا أنّ هذه المكتشفات أصبحت عرضة للنقد منذ سبعينيات القرن الماضي التي أخذت تشكك بصدقيتها، عندما اعترض ج. ب. برتشرد J. B. Pritchard على النتائج التي ادّعاها كلّ من حيفر ويدين. فقد أشار برتشرد إلى أنّ مكتشفات حيفر ويدين الأثرية تعود إلى الكنعانيين وليس إلى اليهود. وجرت نقاشات أخرى تؤكد ما جاء به برتشرد وتنفي الإدّعاء القائل إنّ مجدو يهودية. وما الاعتراف بأنّ الكنز المُكتشف كنعانيّ، يعود تاريخه إلى 3100 سنة خلت، إلا تأكيداً على أنه لم يعد بإمكان علماء الآثار «الإسرائيليين» الاستمرار في تزوير التاريخ والكذب. وأنّ صوت فلسطين الكنعاني لا تشوبه أية شائبة ولا يشاركه أيّ صوت آخر. وأخيراً اعترف الآثاري «الإسرائيلي» زئيف هيرتسوج قائلاً: «بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة، في أرض إسرائيل «فلسطين»، توصّل علماء الآثار الى نتيجة، انه لم يكن لنا هنا أيّ شيء لليهود، سوى الأساطير، حيث لا وجود هنا لمملكة داود وسليمان، والباحثون يعرفون هذه الحقائق».
اعتراف هيرتسوج جاء متأخراً فقد سبقه إلى هذا – على سبيل الحصر فقط- كلّ منّ رينهارت دوزي 1820 – 1883 الذي وضع كتاب عام 1864 بعنوان:
«Die Israeliten zu Mekka von Davids Zeit bis in s funfte Jahrhundert unsrer Zeitrechnung :ein Beitrag zur alttestamentlichen Kritik und zur Erforschung des Ursprungs des Islam / aus dem Hollandischen ubersetzt». وعنوان الكتاب بالعربية مترجماً عن الهولندية: «بنو إسرائيل في مكة من عهد داود حتى القرن الخامس من تأريخنا الحالي أي: «الميلادي»: إسهام في نقد العهد القديم والبحث في تاريخ الإسلام. نذكر هنا أنّ مؤسسات عربية عديدة ترجمت كتب دوزي التي تحدثت عن اللغة والملابس إلا أنها أحجمت عن ترجمة هذا الكتاب الهامّ، لأنه يتعارض مع الفكر السائد عن تاريخ اليهود في الفكرين العربي والإسلامي. ونقل الدكتور نزيه مؤيد العظم 1890 – 1977 في كتابه «رحلة إلى العربية السعيدة» في العام 1927 صدرت في كتاب عام 1936 عن عبد الرحمن الشهبدنر 1879 – 1940 أن رابيا يهودياً من اليمن أخبره أنه كانت لليهود مملكة عظيمة في اليمن. وكما يؤكد كلّ من كمال الصليبي 1929 – 2011 ، توماس تومسون وكيت ويتلام وزياد منى وفاضل الربيعي على عدم قبولهم التناخ نصّاً تاريخياً، بل يتقاطعون كلّ وفق منهجه الخاص أنّ ميدان أحداث التناخ، الذي هو تاريخ قبيلة «بني إسرائيل العربية»، في غرب شبه جزيرة العرب.
وعن مجدو يقول الشاعر عزّ الدين المناصرة:
«أرسم طيراً أخضرَ أطراف مغارات الغابة
أرسم زهراتِ القندولِ على الصفّينْ.
أرسم زنبقةً ووعولاً، تتراكض الليل البُنّيْ
سهل العنب الدابوقيْ
أرسم طاقيَّةَ إخفاءٍ لأزوركِ،
أُكحّلُ جفنيكِ… بلونينْ
وأوزّعُ قافيتي وخيولي بين مَجِدّو… وَمَجِدّو.
سهل مجدّو يرتفع العَلَمُ الكنعانيْ:
الأخضرُ زرعي، داسوه بجرّافاتْ
الأحمرُ، قُرباناً، أُهديهِ إلى الإيلْ
كبشيْ، أُطلقُهُ من أجل مناماتْ
الأبيضُ حقلُ الملحِ، شربناهُ على المُنعرجاتْ
الأسود قهرٌ أضلعنا من زمنٍ فات».
ashkar33 hotmail.com