تقرير

نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية تقريراً يُظهر رحلة سعيد وشريف كواشي، منفّذَي عملية «شارلي إيبدو» في العاصمة الفرنسية باريس، إلى «الجهاد».

وجاء في التقرير: بفضل بطاقة هوية، وجد المحققون أنفسهم في طريق الأخوين سعيد وشريف كواشي، المنفذين المحتملين لجريمة يوم الاربعاء 7 كانون الثاني الجاري، والتي ذهب ضحيتها 12 قتيلاً. لقد نسي الأخوان البطاقة، بحسب ما صرّحت به الشرطة الفرنسية، في السيارة التي فرّا فيها من مكان الجريمة، وكانت تلك البطاقة هي الخيط الذي مكّن المحققين من رسم «بورتريه» الأخوين.

كان هذا الخيط أساسياً لكي يصل أعوان مديرية الأمن الداخلي الفرنسية بسرعة إلى المشتبه بهما، خصوصاً أنّ الملف الذي بحوزتهم مكّنهما من معرفة الأماكن المحتملة التي سيمرّ منها الأخوان. تمثّلت هذه النقاط في شقة في باتان الواقعة في ضاحية سان دوني، وضاحية جانفيليي التي عاش فيها شريف كواشي وتزوّج فيها. وأخيراً، هناك مدينة رانس أو شارلوفيل ميزيار في الأردان شمال غرب فرنسا حيث يقطن الأخوان كما تصرّح بذلك بطاقة الهوية.

لم يتبين أثر لهما في هذه المنطقة، ولذلك انحصر البحث في باريس وضواحيها. خصوصاً أن ثمة من سجّل حضورهما منذ فترة غير بعيدة في حيّ كروا روج في رانس، ما جعل الشرطة الفنية تبحث بدقة في الشقة التي استعملاها هناك. وفي الأثناء، وُضع أقاربهما تحت الرقابة الأمنية المشدّدة عسى أن يستعينا بأحدهم.

في الليلة الأولى التي أعقبت الجريمة، تقدّم صهر شريف كواشي، حميد مراد، إلى مخفر شارلوفيل ميزيار كي يزيح أيّ اتهام عن كاهله بعد أن لاحظ تداول اسمه في شبكات التواصل الاجتماعي. حميد من مواليد 1996 لم يكن مشتبهاً به بصفة رسمية، غير أن تقدّمه إلى الشرطة بطريقة طوعية جعلته محط آمال كبيرة، فانطلقت معه التحقيقات.

أشقاء مشبوهون

يمكن أن نبدأ قصة شريف كواشي من سنوات المعهد. في ذلك الوقت، اعتبر الأكثر عنفاً بين أقرانه، حتى أن عدداً من زملائه كانوا، منذ ذلك الحين، لا يستبعدون أن يقوم بعمليات إجرامية ضدّ اليهود خصوصاً. لم تتأخر العمليات الإجرامية لشريف كواشي، ولكنها كانت مجرّد عبث انحرافي، فقد أقدم على عدّة سرقات مع أصدقائه في حي بوتشومون في الدائرة 19 من العاصمة باريس، هذه الدائرة التي يتردّد اسمها في كل أنحاء العالم اليوم. بعد ذلك دخل في متاهات تجارة المخدرات وعالم الانحراف الصغير من سطو وسرقات.

لم تظهر على شريف كواشي أيّ علامات انجذاب نحو «العقيدة الجهادية» حتى سنة 2003، أي في بدايات العشرينات من عمره، حين بدأ يتردّد على مسجد «الدعوة». كانت هيأته رياضية، بشعره الطويل نسبياً وملابسه الرياضية.

في هذا المسجد، تعرف شريف على من سيكون في وقت لاحق قائد «الخلية العراقية»، فريد بن يطو المتهم بإرسال شباب فرنسيين إلى الجهاد في العراق. سحَرَ بن يطو القادم الجديد بمعرفة موسوعية للإسلام وأصبح داعية بالنسبة إلى عدد من هؤلاء الشباب التائهين. بدأ يقدّم لهم الدروس الدينية بعد الصلاة، في المسجد أو في بيوتهم الخاصة أو في أيّ مكان من الحي. أخذت العلاقة تصبح أكثر متانة بينهم، حتى أن عدداً منهم تخلّى عن علاقاته الأسرية. تبدلت حياة الجميع بطريقة قطعية. توقفوا عن التدخين، تخلوا عن السرقة مورد رزقهم، وأصبحوا يشاهدون شرائط الفيديو التي تتحدث عن الجهاد. وصرّح أحد المقرّبين من شريف كواشي في محاكمة سنة 2008: «ما شاهدناه، خصوصاً عقب عمليات التعذيب في سجن أبو غريب، شجعنا للدخول في العقيدة الجهادية».

حين اعتقلت الشرطة الفرنسية من باتوا يعرفون بـ«الخلية العراقية» في الدائرة 19 من باريس، اعتبروا عموماً ومنهم شرف كواشي كفريق هواة. وبالذات اعتبر شريف كواشي مجرد شاب منحرف التقطته العقيدة المتشدّدة. كانت التقارير حولهم تقول إنهم كانوا يتمرّنون في حديقة بوتشومون، في كلمة كانوا بالنسبة إلى السلطات الفرنسية مجرد «شباب يريدون اللعب في ملعب الكبار». لم يلاحظ أحد أن الشباب قد تدرّبوا على حمل السلاح داخل مسجد «الدعوة». العجيب في قصة شريف كواشي أنه استكمل تكوينه «الجهادي» في السجن.

التشدّد في السجن

كان ثمة سرّ يتداوله الشباب في ما بينهم، رحلة العراق. يكشف أحد المستجوبين في 2008 أن سعيد كواشي كان قد قال: «كلما اقترب موعد الرحلة كنت أريد العودة إلى الوراء. ولكنني أحجم عن فعل ذلك كي لا أنعت بالجبان».

بين عامَيْ 2003 و2005 كانت الرحلات تتالى نحو العراق، وكان هؤلاء «الجهاديون» من حاملي الجنسية الفرنسية يجتهدون كل بطريقته لكي لا يثير حوله الشبهات. غالبيتهم حين تحاصرهم الأسئلة في المطار، كانوا يقولون للمسؤولين: «نريد تحسين لغتنا العربية في بلداننا الأصلية». لم تبدأ المشاكل في فرنسا الا حين بدأت عائلات هؤلاء الشباب تقلق عليهم، غير أن هذا أيضاً لم يثر بالقدر الكافي السلطات الفرنسية. عادة ما يتّجه «الجهاديون» الفرنسيون إلى دمشق حين تتكفل بهم مدرسة سلفية، وحيث يتلقون تكويناً فكرياً. ومتى يتمكّنون من الجانب العقدي، يرحّلون باتجاه الحدود السورية العراقية. بالنسبة إلى شريف كواشي، لم يكن جزءاً من هذه الرحلات، ولم يكن أصلاً في ذهن الشرطة الفرنسية إلا حين استوقفته الشرطة في كانون الثاني 2005.

لسنة ونصف السنة، أي من كانون الثاني 2005 إلى تشرين الأول 2006، كان شريف كواشي نزيل سجن «فلوري ميروجي» جنوب باريس، وفي السجن بالذات تعرّف إلى أحد أهم رجال «الجهاد» في فرنسا: جمال بيغال الذي سيتحول إلى أستاذ لشريف كواشي. كان المحيطون بجمال بيغال ينادونه «أبو حمزة»، وكان يقضي حكماً بـ10 سنوات سجناً بعد اكتشاف تخطيطه لتفجير السفارة الأميركية في باريس سنة 2001.

حين خرج من السجن في 2006، اشتغل شريف كواشي في محل لبيع الأسماك في ضاحية إفرلين. احتفظ بعلاقاته مع زملاء بوتشومون. وبحسب أحد تقارير شرطة مكافحة الإرهاب، ورد اسمه سنة 2010 في عملية كانت تهدف لتحرير إرهابيّ مسجون منذ 2002 هو اسماعيل آيت علي بلقاسم.

أصبح الاسم معروفاً لدى شرطة الإرهاب، ولذلك أصبح توقيف شريف كواشي أمراً وارداً، وفي أيار 2010 سُجِن إلى حدود يوم 11 تشرين الأول من السنة نفسها على أساس شكوك بمشاركته في مخططات إرهابية. غير أن الأدلة لم تكتمل في شأنه فوقع تحريره. لم يملك المحققون من أدلة سوى «مظاهر التشدد الإسلامي التي تبدو عليه، ودفاعه عن شرعية الجهاد»، كما جاء في ملفه.

صور إباحية وكتب جهاد

كانت العلاقة مع جمال بيغال تعتبر بالنسبة إلى المحققين نقطة انطلاق جيدة. اكتشف المحققون أنّ شريف كواشي التقى بين 9 و16 نيسان 2010 بجمال بيغال، وصوّر اللقاء فوتوغرافياً من قبل الشرطة. يوم 11 نيسان 2010 صباحاً، جمع لقاء بين الرجلين وأحمد لايدوني وفريد ميلوك. كان اللقاء عبارة عن مباراة كرة قدم. يبدو أن خطة تحرير الإرهابي إسماعيل آيت علي بلقاسم وضعت وقتذاك.

اقتحمت قوات الشرطة بيت شريف كواشي في غانفيليي، وفتّشته. عثروا على صور بورنوغرافية بجوار كتب الدعوة إلى «الجهاد». عند هذه النقطة يظهر للمرة الأولى الأخ الأكبر سعيد. هذا الذي سيتحوّل بعد مدة قصيرة إلى اسم معروف حين علمت الدبلوماسية الفرنسية من قبل السلطات في اليمن والقوات الأميركية هناك بعد مروره باليمن سنة 2011. شوهد سعيد كواشي مع شخصيات معروفة بالتشدد الديني. وجاء في التقرير اليمني: من المتوقع انه مر من معسكر للسلفيين في مدينة الشحر التي يشير التقرير إلى أنها تضم من 200 إلى 300 من حاملي الجنسية الفرنسية.

وقتئذٍ، يمكن أن نستنتج أن سعيد الكواشي أصبح عضواً في تنظيم «القاعدة» في الجزيرة العربية، ما يجعل المنطق اليوم يشير إلى أن هذا التنظيم وراء جريمة «شارلي إيبدو». وبحسب معلومات وردت في «لوموند»، فإن المجموعة التي تضمّ بيغال وكواشي وكانت تستعد لتحرير آيت علي بلقاسم، تضمّ أيضاً واحداً من أكثر الأسماء الإرهابية تداولاً اليوم: سليم بن غالم، والذي تعتبره الإدارة الأميركية أحد أهم رجال تنظيم «داعش» في سورية، ووضع في شهر أيلول 2014 في القائمة السوداء لأخطر الإرهابيين في العالم.

حين كان سليم بن غالم يقضي عقوبة السجن في 2008 في أحد السجون الفرنسية جمعته صداقة مع عضو في الخلية العراقية كان يتقاسمان الزنزانة. تواصلت هذه الصداقة حتى بعد خروج سليم بن غالم من السجن ليقترب أكثر فأكثر من رجال الخلية العراقية، خصوصاً ثامر بوشناق.

خلية الدائرة 19

إن خلية الدائرة 19 من العاصمة باريس، ظهرت للعيان في تونس، يوم 6 شباط 2013، ثم يوم 25 تموز 2015، حين اغتيل كل من المعارض اليساري شكري بلعيد ثم النائب محمد البراهمي. أدخل هذان الاغتيالان تونس في أزمة سياسية عميقة، واتهمت السلطات التونسية تنظيم «أنصار الشريعة» الذي تأسس في أيار 2011 .

في يوم 17 كانون الأول 2014، تبنّى فرنسي آخر هو أبو بكر الحكيم، يلقب نفسه بِاسم «أبو مقاتل» العملية. وبحسب معلومات الشرطة الفرنسية، هو مقرّب من شريف كواشي. لا بل أنه أحد مؤسّسي «الخلية العراقية» في الدائرة 19 من العاصمة الفرنسية، ولعلّ أبو بكر الحيكم يعتبر رمزاً ومثالاً بالنسبة إلى باقي زملائه من «الجهاديين» حاملي الجنسية الفرنسية. وعلى عكس الكواشي، تمكّن أبو بكر الحكيم من بلوغ العراق، وذلك منذ 2002، ودخل العراق في أربع مناسبات قبل أن تعتقله السلطات الفرنسية في 2008.

24 ساعة بعد مقتل الأخوين كواشي، ستتساءل كلّ السلطات المهتمة بملفّ الإرهاب، عن العلاقة بين الثلاثي: كواشي في فرنسا، بن غالم في سورية والحكيم في تونس. كانت التقارير الفرنسية دائماً تشير إلى احتمال أن تحدث عمليات إرهابية فوق التراب الفرنسي حين يعود حاملو الجنسية الفرنسية من ميدان المعارك المشتعلة في سورية. في النهاية، حدثت المأساة، ولكن ليس من الطرف المتوقع، بل من الحرس «الجهادي» القديم الذي ظل ينمو داخل فرنسا، والذي مرّ في مناسبات كثيرة من بين أصابع السلطات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى