المطلوب إصلاح النظام السياسيّ الفلسطينيّ وطنيّاً وديمقراطيّاً
رامز مصطفى
من دون الخوض كثيراً في أزمة النظام السياسي الفلسطيني، الذي بلغ حد الاهتراء في الشلل والعجز كمعبّر عن مكونات الشعب الفلسطيني كلّها، فإن هذه الأزمة واكبت مراحل النضال الفلسطيني منذ ما قبل أوسلو عام 1993، في ظل وجود منظمة التحرير الفلسطينية قائدة النضال الوطني للشعب الفلسطيني وفصائله. النظام السياسي الذي اتسم بالهيمنة والاستئثار والتفرد في تلك المرحلة هو المسؤول عن إنتاج اتفاق أوسلو وما جلبه من ويلات على القضية الوطنية، ويكفي القول أن هذا الاتفاق تم التنازل بموجبه عن 78 في المئة من أرض فلسطين التاريخية لمصلحة الكيان الصهيوني فاكتشفنا حجم العقم والفشل اللذين أصابا النظام السياسي الفلسطيني لمنظمة التحرير ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية. هذا النظام الذي تعرض بدوره للانقسام حول التوجهات والرؤى السياسية للقيادة المتنفذة في منظمة التحرير آنذاك، منذ منتصف سبعينات القرن الفائت.
وقعت اتفاقات أوسلو عام 1993 وأنشئت بموجبها سلطة الحكم الإداري الذاتي على أراضي الضفة والقطاع فعمّقت مأزق النظام السياسي، على عكس ما حاول أن يروّج له «الأوسلويّون» آنذاك. ومشاهد التعثر التي عاشتها هذه السلطة في جميع مناحي عملها خلال العقدين الماضيين دفعت حكومات الكيان الصهيوني وشجعتها إدخال السلطة الفلسطينية ومفاوضيها في متاهات لا تنتهي من العبث السياسي. ومضى الكيان الصهيوني وحكوماته المتعاقبة في اقتحام العناوين الفلسطينية التي عرّضتها منظمة التحرير الفلسطينية منذ توقيعها اتفاقات أوسلو للخطر الشديد، بعد موافقتها على ترحيل هذه العناوين إلى ما سمّي بمفاوضات الحل النهائي التي يُفترض أنها بدأت عام 1998، أي بعد مضي خمس سنوات على هذه الاتفاقات.
لعل من أخطر أزمات النظام السياسي الفلسطيني هو ما يعانيه هذا النظام في مستوييه، الأول تعطيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بمجلسيها الوطني والمركزي ولجنتها التنفيذية والتي شاخت وعفا عليها الزمن. والثاني السلطة الفلسطينية ذاتها معطّلة مؤسساتها التشريعية والرئاسية التي تجاوزت سقوفها الدستورية لكلّ من انتخابات المجلس التشريعي المنفرط عقده أصلاً بسبب الانقسام ووجود حكومتين، واحدة في الضفة الغربية والثانية في قطاع غزة، وانتخابات رئاسة السلطة. وبهذا المعنى فإن النظام السياسي الفلسطيني دستورياً وقانونياً غير شرعي، وهو موجود اليوم بحكم الأمر الواقع ووضع اليد، أي بالهيمنة، إن لم نقل بالسطوة. فضلاً عن أنّ هذا النظام يُدار منذ زمن عقود حتى اليوم بطريقة القائد أو الزعيم، لا بطريقة عمل المؤسسات والقيادة الجماعية التي يحكم أعمالها القانون والدستور والنظم واللوائح. إذ تشكل في كنف المنظمة والسلطة على حد سواء جيش من المنتفعين والمستفيدين والمحسوبين والمتحكمين، ولم يكن ينقص النظام السياسي الفلسطيني إلاّ ما تعانيه الساحة الفلسطينية من انقسام وطني حاد لم يسبق له مثيل منذ عام 2007، فالسلطة سلطتان وحكومتان، والتشريعي تشريعيان، والرعية تحت وصاية سلطات ثلاث، واحدة لسلطة حكومة الاحتلال، وثانية لسلطة حكومة فتح في الضفة، وثالثة لسلطة حكومة حماس في القطاع. وإذا كان هناك من يعتبر أن المنظمة والسلطة هما الدعامتان الأساسيتان في الدولة الفلسطينية العتيدة، فعلى أي شاكلة ستكون هذه الدولة الموعودة في ظل نظام سياسي متهالك في مؤسساته كلّها. هذا إذا أبقى الكيان أصلاً لها مكاناً في ظل التهويد والاستيطان المستشريين فوق الأرض الفلسطينية المحتلة.
اليوم، في ظل استئناف المفاوضات منذ آب الفائت، ووصولها إلى أفق مقفل تماماً بسبب حكومة نتنياهو وسياساتها العدوانية وإصرارها على فرض رؤيتها للحل مع السلطة في ما يتعلق بالعناوين المطروحة، والامتناع عن إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى. عدا تواجهه المنظمة والسلطة من تحديات إضافية نتيجة ذلك، إذ عمدت حكومة نتنياهو ومن خلفها الإدارة الأميركية إلى شن حرب العقوبات على السلطة وحكومتها ومقاطعتها على خلفية توجه السلطة إلى المشاركة في 15 هيئة واتفاقية دولية. والمفارقة أن جلسات التفاوض مستمرة برعاية مارتن أنديك، والتنسيق الأمني لا يزال مستمراً، وفي كلا الأمرين مصلحة مباشرة لحكومة نتنياهو. هذه التحديات التي لا يعلم أحد لا في فصائل المنظمة بلجنتها التنفيذية، ولا حتى في المؤسسات الوطنية الأخرى كيف السبيل إلى مواجهتها في ظل غياب الخطة واستراتيجية العمل، وتبقى الموضوع رهينة الحلقة المقربة من رئيس السلطة دون سواها. كأن هناك من يتعمد إيصال النظام السياسي الفلسطيني ومؤسساته الوطنية إلى المأزق الذي لا يمكن معه إنقاذ هذا النظام مما يعانيه من فساد مالي وإداريّ وسياسي وهذا ما تذهب إليه الكثير من أدبيات وبيانات وتصريحات فصائل منظمة التحرير الفلسطينية.
إن تحقيق قدر عال من الصمود والمناعة الوطنية، في ظل المواجهة الدائرة الآن مع الاحتلال الصهيوني وحكومته، يفترض بالضرورة العمل على إصلاح النظام السياسي الفلسطيني وطنياً وديمقراطياً من خلال: أولاً تحريره من الهيمنة والقبض على مؤسساته والاستئثار بها، وثانياً إنهاء الانقسام وتوحيد الساحة الفلسطينية بالذهاب إلى تنفيذ عناوين ومتطلبات المصالحة، وثالثاً إعادة تشكيل المؤسسات الوطنية الفلسطينية وإصلاحها ديمقراطياً بما يحقق المشاركة الجماعية لقيادة العمل الوطني الفلسطيني، خاصة في ما يتعلق بمؤسسات منظمة التحرير، رابعاً إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني ومتطلباته النضالية والكفاحية، بغية التصدي للأطماع الصهيونية المتمادية، من خلال التأكيد على التمسك بالثوابت والحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتنازل والتفريط مهما تعاظمت التحديات وتكاثفت الضغوط.