قراءة المشهد الفلسطيني في عام 2014 2/3

رامز مصطفى

المصالحة المتوقفة

بات من المؤكد وعلى كثرة المحاولات لرأب صدع الانقسام وإنجاز المصالحة، فإنّ جميع هذه المحاولات وما أنتجته من اتفاقات، قد باءت بالفشل، ولن يكون آخرها اتفاق مخيم الشاطئ في قطاع غزة بين حماس وفتح في 23 نيسان الماضي الهادف إلى إنهاء الانقسام وتنفيذ اتفاق المصالحة الموقع في أيار 2011.

صحيح أنّ اتفاق الشاطئ قد أنهى وجود حكومتي غزة والضفة لصالح حكومة الوفاق الوطني التي ترأسها الدكتور رامي الحمد الله. ولكن سرعان ما عادت الحرب الإعلامية والسياسية بين الموقعين على اتفاق مخيم الشاطئ، على خلفية صرف الرواتب للموظفين في قطاع غزة والذين تمّ تعيينهم في فترة ما بعد العام 2007 وملف المعابر والأجهزة الأمنية. وما جمّد هذا السجال الحامي الوطيس بين الحركتين إلى حين، هي الحرب العدوانية التي شنّتها «إسرائيل» على قطاع غزة في تموز الماضي على مدار 51 يوماً. ومن ثمّ تشكيل الوفد الفلسطيني الموحّد إلى المفاوضات الغير مباشرة مع «إسرائيل» برعاية مصرية. هذا الوفد الذي مثل في حينه حالة نموذجية لوحدة الموقف الفلسطيني مع ما شابَهُ من ملاحظات وتباينات.

وما ان هدأت الحرب وحطت أوزارها بعد تدمير هائل ومجازر مروّعة بحق أبناء شعبنا، حتى عاد المتحاربون في حماس وفتح إلى حربهم الإعلامية والسياسية، في ظلّ كارثة إنسانية يتعرّض لها أهلنا في قطاع غزة، وفقدان الثقة في إمكانية إعادة إعمار ما هدمته آلة القتل «الإسرائيلية». الأمر الذي انعكس سلباً، حيث تمثل ازدياداً مضطرداً في تفشي نسبة البطالة وظاهرة الهجرة بين الشباب، وهذا ما أظهره استطلاع للرأي أعدّه الدكتور نبيل كوكالي، وقام بنشره المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي في أيلول الماضي. والسؤال الذي وجه إلى المستطلعين: «لو كان باب الهجرة مفتوحاً أمامك، هل تفكر في مغادرة غزة إلى بلاد أخرى؟ الجواب: 25,0 في المائة نعم و 72,2 في المائة كلا و 2,8 في المائة لا يعرف.

صحيح أنّ نسبة الرافضين كانت الأعلى، ولكن مع استمرار انسداد أفق الحياة وفرص العمل، فإنّ نسبة الموافقين ستزداد على حساب نسبة الرافضين للهجرة. وبالتالي الانقطاع المتواصل للكهرباء وزيادة نسبة الضرائب، وعدم الوضوح في خطة سيري لإعادة إعمار القطاع والمعايير التي وضعتها في هذا الخصوص، ليضاف ملف الإعمار نقطة خلافية إلى ما سبقه من نقاط خلافية، حيث اتهم الطرفان بعضهما البعض بأنه اتفق منفرداً مع المبعوث الأممي روبرت سيري. والذي أتت خطته متلازمة مع مؤتمر «المانحين» لإعادة «إعمار غزة» الذي عُقد في الثاني عشر من تشرين عام 2014 في القاهرة، بدعوة مصرية نرويجية.

والمؤسف أنه في ظلّ احتدام السجال السياسي والإعلامي بين حماس وفتح، يوظف العدو الصهيوني الانقسام من أجل تحقيق برنامجه في التهويد والاستيطان، والقضاء على حلم الفلسطينيين في أن تكون لهم دولة في المستقبل حتى ولو وفق حلّ الدولتين المزعوم والمرفوض، وصولاً إلى شطب حق العودة وفق رؤية الإدارة الأميركية القائمة على «يهودية الدولة» حسب ما عبّر عنه الرئيس باراك أوباما صراحة خلال زيارته الأخيرة للكيان «الإسرائيلي»، عندما طالب السلطة الفلسطينية بضرورة الاعتراف بيهودية الدولة.

إنّ استمرار تقديم الاعتبارات الخاصة لكلّ من الحركتين على ما سواها من عناوين المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، من شأنه أن يلحق أفدح الضرر بقضيتنا وعناوينها. وإن كنا لا نستطيع أن نساوي في المواقف والرؤى السياسية بين الحركتين، ولكن الانطباع العام السائد لدى جموع الكثير من الفصائل والقوى والشخصيات والنخب والجمهور الفلسطيني أنّ الصراع بين الحركتين على السلطة وما تؤمّنه من مواقع ومصالح وحضور. ولعلّ استئثار الحركتين باللقاءات الحوارية ومن ثم التوقيع على الاتفاقات بينهما، واستبعاد الفصائل إنما يدلل بوضوح على ما سبق في تكريس مبدأ المحاصصة الثنائية بين الحركتين. وهذا ما عبّرت عنه الفصائل في أدبياتها السياسية والإعلامية، عن رفضها اعتماد هذا المبدأ، ودعوتها الطرفين إلى ضرورة التوقف الفوري عن السجال والاتهامات المتبادلة، وبالتالي وقف كافة الإجراءات الميدانية المتبادلة سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة.

هذا السجال وهذه الاتهامات، وفي ظروف بالغة الدقة والخطورة، لا مبرّر أو معنى لها. وبالتالي من شأن هذا السجال المقيت عبر وسائل الإعلام واستمراره، أن يُفاقم في تعقيد المشهد الداخلي الفلسطيني. نعم هناك ملاحظات وممارسات، وهي تسيء إلى الجميع، ولكن من المستحسن أن يتمّ البحث في كلّ هذه الملاحظات والمواقف، في الإطار القيادي الفلسطيني الموقت، الذي نصّ عليه صراحة اتفاق المصالحة، وعليه أن يتولى البحث في مجمل الأوضاع الفلسطينية، إلى حين إجراء الانتخابات.

الحرب «الإسرائيلية» الثالثة

مما لا شك فيه أنّ الشعب الفلسطيني ومقاومته بكافة تشكيلاتها وكتائبها في قطاع غزة، قد حققت نصراً عسكرياً مع انتهاء اليوم الواحد والخمسين من الحرب العدوانية التي شنتها «إسرائيل»، مع ما خلفته من دمار طاول كلّ شيء في غزة، وسقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى، وتشريد مئات الآلاف من أبناء شعبنا خارج منازلهم وأحيائهم ومخيماتهم. ولكن لا يزال هذا الانتصار في دائرته العسكرية دونما صرفه في السياسة وإعادة الإعمار، وعودة الحياة إلى طبيعتها.

ومن دون الغوص كثيراً في المسوغات والمبرّرات الكاذبة والمضللة التي يسوقها الكيان على عادته في تبريره للحروب الثلاثة التي شنّها على قطاع غزة خلال الأعوام الستة الماضية. ولكن مع شخصية مركبة، كشخصية رئيس حكومة الكيان «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، التي يتنازعها الكثير من الغرور والجنوح إلى تحقيق زعامته ومجده الشخصي ولو على حساب الآخرين، وبالتالي هو الهارب دوماً من مآزقه المتدحرجة، حتى ولو كان في الأمر توريط كيانه في حروب عسكرية أو أزمات سياسية. خصوصاً أنه يقود ائتلافاً حكومياً على الرغم من عدم تجانسه، فقاسمه المشترك الإيغال عميقاً نحو منع الفلسطينيين من تحقيق تطلعاتهم وأمانيهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، وإقامة دولتهم المستقلة. مع ما يعينه ذلك من ارتكاب المزيد من الممارسات الإجرامية والتعسّفية، والاستيلاء على الأرض الفلسطينية وتهويدها.

ونتنياهو من بين هؤلاء المؤتلفين معه في مواجهة شعبنا الفلسطيني وحقوقه الثابتة والمشروعة، يسعى إلى إثبات أنه يقف في مقدمتهم من أجل تحقيق حلم «الدولة القومية للشعب اليهودي». مضافاً إلى ذلك ما يراود نتنياهو وقادة الكيان من ضرورة السعي الدؤوب إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية، مستفيدين من المناخات التي تعيشها المنطقة من أحداث وتطورات خطيرة، الأمر الذي أتاح للكيان ترتيب المزيد من العلاقات مع العديد من هذه الدول الإقليمية. ليأتي اتفاق مخيم الشاطئ بين حماس وفتح من أجل تطبيق عناوين المصالحة. وما سبقه من توقف للمفاوضات بين «إسرائيل» والسلطة، ليُفقد نتنياهو والبعض من ائتلافه الحكومي صوابهم، ويدفعهم إلى إطلاق التهديدات في وجه السلطة ورئيسها ووصفه بأنه ليس سوى شخص لا يريد السلام، وبالتالي يغطي الإرهاب.

وقد ذهب نتنياهو إلى أبعد من ذلك حين طالب السيد محمود عباس رئيس السلطة أن يختار بين السلام مع «إسرائيل» أو المصالحة والعلاقة مع حماس. وفوق كلّ ما سبق استغلال عملية اختطاف ثلاثة مستوطنين في منطقة الخليل، واكتشاف مقتلهم بعد أيام. واتهام نتنياهو المباشر حركة حماس أنها تقف وراء عملية الخطف ومن ثم قتل هؤلاء المستوطنين الثلاثة.

خلال 51 يوماً من الحرب العدوانية على غزة، فعل قادة الكيان كلّ ما في وسعهم من أجل فرض الهزيمة والانكسار على الشعب الفلسطيني ومقاومته. ارتكبوا المجازر تلو المجازر، ودمّروا الآلاف من المنازل والأحياء والتجمّعات السكنية، والبنى التحتية، من محطات مياه وكهرباء وصرف صحي ومدارس، ومراكز دور الأيتام والاحتياجات الخاصة والمساجد، وحتى سيارات الإسعاف لم تنجو من آلتهم القاتلة. جرّبوا التوغلات البرية والإنزالات البحرية، لكنهم لم يفلحوا في كسر إرادة المقاومة وتدمير بُناها وقدراتها العسكرية التي فاجأت نتيناهو وقادته العسكريين والأمنيين بقدرة المقاومة على الاستمرار في إطلاق الصواريخ التي غطت كلّ الأرض الفلسطينية المحتلة وشلت الحركة، وأوقفت الرحلات الجوية من وإلى الكيان. وأجبرت ما يزيد على المليون مستوطن أن يبقوا في الملاجئ طيلة أيام الحرب. والأهمّ هو سلاح الأنفاق والعمليات خلف خطوط العدو ومواقعه وقواعده العسكرية، وأسر جنود له. والأهمّ أنّ التصدّعات والخلافات على خلفية الحرب وعدم تحقيق أيّ من النتائج الملموسة، بدأت تطفو على سطح المشهد السياسي والعسكري والأمني في «إسرائيل». وبدأت الأصوات ترتفع مطالبة بتشكيل لجان تحقيق لتحميل مسؤولية الإخفاقات والهزيمة العسكرية التي مُنيت بها «إسرائيل» على يد المقاومة الفلسطينية الباسلة في قطاع غزة. الأمر الذي أتاح للوفد الفلسطيني الموحد إلى المفاوضات الغير مباشرة مع وفد «إسرائيلي»، وبرعاية مصرية. أن يُثبت قدرة فائقة في إدارة معركته السياسية والتمسك بمطالب المقاومة، ومنع العدو من تحقيق أي من شروطه أو مطالبه. وهكذا تكاملت المعركة في الميدان مع المعركة في السياسة.

كنا نتمنى أن يُبنى على هذا الانتصار وهذه التضحيات ما يُنهي معاناة أهلنا في القطاع، من خلال رفع الحصار، وفتح المعابر، وإعادة الإعمار. ولكن تعليق المفاوضات الغير مباشرة في القاهرة حتى اللحظة لدواع وأسباب غير مفهومة سوى أنّ توقفها أو تعليقها سيزيد من المعاناة اليومية لسكان غزة. إنّ انتصار المقاومة، وعلى أهميته الاستراتيجية، كونه تعميقاً لأزمات الكيان وتحديداً الوجودية منها، وحرم العدو من تحقيق أهدافه العدوانية في القضاء على المقاومة. فهذا غير كاف إذا لم يُؤسّس عليه، أولاً حلّ المشكلات الاقتصادية والإنسانية لشعبنا وتحقيق مكاسب سياسية لقضيتنا، وثانياً في إعادة تصويب البوصلة نحو فلسطين واستعادة الأمة إليها. أما ثالثاً الحذر من هدر تضحيات أبناء الشعب الفلسطيني في زواريب المكاسب الفئوية الضيقة لصالح هذا الفصيل أو ذاك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى