صباح قباني وتعددية المواهب…

سامر عوض

توفي في مستهل سنة 2015، وفق التقويم الميلادي، الدكتور صباح قباني، سفير سورية لدى الولايات المتحدة الاميركية، بعد قطيعة أعقبت حرب تشرين التحريرية، وذلك سنة 1974. وكان مدير البرامج في التلفزيون السوري، وعمل سنة 1958 على تأسيس مديرية الفنون، خطوة بخطوة ولحظة بلحظة.

قام قباني باكتشاف موهبة الفنان السوري الكبير دريد لحام، وقد التمس منه الإنضمام للتلفزيون، حيث انتفعت من هذا الاكتشاف سورية، والعالم العربي بأسره. هو شقيق الشاعر الكبير نزار، ويشتركان كلاهما برهافة الحسّ. هو والد الدكتورة رنا التي عملت كثيراً في مجال الاستشراق ودحض دعاية الغرب البغضاء عن الشرق.

الدكتور صباح سليل عائلة وطنية وعريقة. جدَّه أحمد أبو خليل القباني، ذاك الرجل الكبير الذي كان من رواد المسرح الغنائي العربي، وقد برع في الموسيقى، والتمثيل، والرقص، والغناء، على الصعيد العربي، اذ كانت له إسهاماته المسرحية الكبيرة في مصر وغيرها من الأقطار العربية. والد صباح هو توفيق، ذاك المناضل الكبير ضدّ الانتداب الفرنسي في سورية، اذ كان منزله، بمثابة هودج يقلُّ الوطنيين لمواجهة الانتداب، وقد واظب الأب على هذه الديناميكية الوطنية الكبيرة والعظيمة، لسنوات وسنوات، مما أثَّر كثيرًا في نفسيِّ صباح ونزار، وزرع في قلبهما حب الوطن حتى الثمالة، وهذا ما ترجماه كلاهما في العمل الدبلوماسي، والأدبي، والسياسي، والفني، والإعلامي، وقد ربّيا أولادهما على هذا الحب.

أكمل صباح دراسته الحقوقية، وتابع في جامعة السوربون فرنسا شهادة الدكتوراه، في مجال منح الجنسية السورية لسكان لواء اسكندرون إذ طعن الفرنسيين من عقر دارهم، بتلك الاطروحة الجامعية التي نالت إعجاب الفرنسين كثيرًا، وقد تعب في سبيل هذه القضية كثيرًا خلال سني حياته السياسية، التي عمل فيها بجدِّ ونشاط لإثبات حق السوريين في الحصول على الجنسية، سواء المقيمين بتلك الارض المسلوخة قسرًا من قبل فرنسا لصالح تركيا، او من هم بالأصل منها.

في يوم من الايام بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين سورية والولايات المتحدة الاميركية، قال هنري كيسنجر وزير الخارجية الاميركي حينها، لسفير سورية الجديد في البلاد صباح قباني: على سورية ان تهتمّ بإظهار صورتها بشكل ناصع على الصعيد العالمي، وأن تبذل ما بوسعها في سبيل إتمام هذا الامر، فأجاب القباني: لا بل على اميركا، ان تهتمّ بصورتها على الصعيد العالمي لانها تحوِّل الحق باطلًا، والباطل حقًا! وللأسف لا زالت الولايات المتحدة تعمل بالذهنية الأحادية التفكير ذاتها حتى يومنا هذا.

لخَّص قباني تجربته الطويلة ووضعها في كتابين: من أوراق العمر، وكلام عبر الايام كتابات في الفن والتراث والسياسة 1953-2010 . وثمة كتاب ثالث تحت عنوان: رضا سعيد، ويتحدث الكاتب عنه،باعتباره مؤسس أول جامعة في سورية. وقد سألت قباني صحافيةٌ دمشقية يومًا: هل تفكر في تأليف كتاب آخر؟ فأجاب بكل تواضع وخفر: أما يكفي ان يؤلف المرء ثلاثة كتب؟! كان رجلاً متواضعاً جداً، عرفته عن قرب، وجمعتني به دمشق صباح يوم 10 كانون الأول 2012، حين تحدثنا كثيرًا في تلك الجلسة اليتيمة، بعدة أمورٍ وقد ترك في نفسي بصمات فاعلة.

في ظل إسهاماته الوطنية الثقافية، قام قباني بترجمة كتابين لكريمته الدكتورة رنا، زوجة الصحافي البريطاني المعروف باتريك سيل، وهما: أساطير أوروبا عن الشرق، ورسالة الى الغرب. وقد انصبّت رسالة هذين الكتابين في مسرى كشف الدعاية المزيّفة التي يسوِّقها الغرب عن الشرق، اذْ يلخِّص قباني الأب القضية ضمن سياق واضح، وبسيط، وعميق في الوقت ذاته لَفّقْ تسُدْ . ويصبّ هذان الكتابان في مجرى دحض ذلك التلفيق وبيان زيفه، من خلال دراسة أساطير أوروبا عن الشرق التي توضِّح هذه الفكرة بشكل منهجي وعميق، مما استدعى الترجمة. والكتاب جدير بالمطالعة، والدراية، وحتى الدراسة والاهتمام، لنعرف ماذا يحيّك عنا الغرب من أقاويل وأكاذيب، لا أساس لها من الصحة.

اهتمّ قباني بالإعلام كثيراً، وكان أسوة بذلك يهوى التصوير، وأقام عدة معارض فوتوغرافية، وذات يوم سُئل عن سبب اهتمامه بالتصوير فأجاب: هل للمرء أن يوقف الزمن؟! بالطبع لا… لأنَّه يتحرك باستمرار، لكن آلة التصوير توقف الزمن، وتحنِّط اللحظة، فالصورة هي اللحظة الفالتة من عقالات الزمان، وهي لا تشبه سابقتها، ولا ما يلحقها. وقد دأب كثيراً على تطوير مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية العربية السورية، راسماً خطوطاً عميقة ما زال لها التأثير الكبير في مسيرة هذه المؤسسة السورية الضخمة.

عمل قباني في وزارة الخارجية السورية لسنوات طوالٍ، وقد تبوأ مناصب عدة في هذا السلك، أسوة بعمله في وزارة الإعلام. وقد جمع في شخصه صلابة المشرقي، ودبلوماسية الغربيين، فكان نشاطه يندرج ضمن مسارين منفصلين، الاول: عمله باستماتة من اجل تحقيق مصالح سورية الوطنية العليا، بصرف النظر عن العواصف الهوجاء التي نتعرّض لها. الثاني: سعيه على الدوام لتكريس مفهوم التجديد والابتعاد عن الاتباعية الروتينية التي تجمِّد كثيرًا العمل المؤسساتي وقد برع في ذلك، اذ ابتكر الكثير من الاساليب التي لا بدَّ لنا من دراستها وتوثيقها، لنستفيد منها فقد كان له جدَّة وفرادة جعلتا منه نموذجًا يُحتذى به وطنيًا، وإبداعيًا.

هذه الأسطر ليست توثيقية بقدر ما هي تسليط ضوء، على بعض الملامح من حياة هذا الرجل الكبير الذي تعلّمنا من تجربته، التي سطَّرها لنا من خلال مؤلفاته، فكانت بحق مدرسة تعلّم كيفية تفعيل مفهوم المواطنة بأبهى صورها، اذ كانت حياته فسيفساء من العطاءات.

هو لم يكن يهوى الظهور، ولم يسمح ان يتكلم عنه أحد لأن الوطن ورسالته السياسية اللذين بذل نفسه في محرابهما، كانا بالنسبة له رسالة وواجب ومسؤولية، وما التعب تجاه الوطن، سوى بداية طريق الإنسان، ليردَّ ولو جزءاً بسيطاً لهذا الكيان العظيم الذي يشكِّلنا كما نشكِّله، وله فضل كبير علينا جميعًا…

برحيل الدكتور صباح قباني عنا، تطوى صفحة من الجهاد المرير، وبذل التعب والعرق، من اجل سورية هذا الوطن العظيم. رحمه الله، علَّمنا بحياته، وسنبقى ننهل من سيرته العطرة بعد وفاته، لانه لم يكُ في قلب سورية وحسب، بل كانت في قلبه ايضًا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى