مدارات

خضر سعاده خرّوبي

كان لافتاً أنّ يطلق المحلل الاقتصادي الأميركي لدى الاستخبارات المركزية الأميركية جيم ريكاردز العنان لتوقعات سوداوية بشأن اقتصاد بلاده الذي توقع انهياره بحلول آذار المقبل.

توقعات ريكاردز لا شك في أنها تنطلق من مؤشرات الاقتصاد الأميركي الذي دخل مرحلة من الانكماش والركود خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ نشوء الأزمة المالية العالمية. الفارق أنّ العام الماضي شهد انفراجات عدة كارتفاع معدل النمو والصادرات، إضافة إلى ما تحقق في سوق الأسهم لسبب أساسي يتمثل في انخفاض أسعار النفط وبسبب ما يتوقف عنده محللون أميركيون، وهو غلبة الأجندة الداخلية للرئيس الأميركي على ما عداها من ملفات خارجية. ومع ذلك فإنّ الاقتصاد الأميركي القابع تحت دين خارجي تخطى حاجز الـ20 تريليون دولار لم يتخطَّ مرحلة الخطر على اعتبار أنّ خطط الرئيس أوباما الاقتصادية التي بدأت تعطي آثارها ببطء في المشهد الاقتصادي الأميركي العام تحتاج إلى استكمالها بمزيد من خطوات ترشيد الإنفاق وشدّ «أحزمة بطون» الموازنة لا سيما تلك العسكرية.

ما تعيشه أميركا هذه الأيام، إنما هو أزمة اقتصادية في ظلال سياسية ستعكس نفسها بالتالي على دورها العالمي والتزاماتها الخارجية، ولا سيما تجاه دول حلف «الناتو». وما تضمّنه البيان الاختتامي لقمة «الناتو» الأخيرة في إمارة ويلز البريطانية يحمل دلالات في هذا الصدد، إذ شدّد على أهمية عنصري الاقتصاد والأمن وضرورة تكاملهما في خطط الدول الأعضاء في الحلف كجزء من الالتزام الجماعي بها في إطار المنظمة بالعمل على الاستمرار في تقوية الاقتصادات في موازاة تحديث القوات المسلحة للنهوض بأعباء الحفاظ على «الأمن المشترك»، وذلك للوصول إلى معدّل إنفاق عسكري يشكل 2 في المئة من حجم الناتج المحلي للدول الأعضاء. ومع افتراض أنّ ما أتى به البيان الاختتامي لقمة «الناتو» ليس شكلياً، فإنّ خطوة تقليص النفقات العسكرية الأميركية تلقى اهتماماً في وقت تسعى الولايات المتحدة إلى دفع «الحلفاء الأطلسيين» نحو زيادة مخصّصاتهم الدفاعية لتخفيف الأعباء المادية والعسكرية عنها، مع لحظ إخلاء قاعدة عسكرية لها في بريطانيا أخيراً، وتركيز اهتمامها الاستراتيجي نحو الباسيفيك الذي تبحث فيه واشنطن عن طريقة لاستثمار القوة العسكرية اليابانية عبر تشجيع طوكيو على اتخاذ خطوات جديدة بعيداً من سياستها السلمية التي اتخذتها بعد الحرب العالمية الثانية، إذ أنهت الأخيرة قبل أشهر حظراً فرض منذ عام 1945 يمنع جيشها من المشاركة في أي حرب في الخارج. بيد أنه ليس من اليسير توقع تقليص دراماتيكي لنفقات واشنطن العسكرية، خصوصاً بعد بروز تحديات الإرهاب وتأزم الوضع في أوكرانيا، فإن الاتجاه العام لخيارات الأخيرة هو تعميق التعاون وحث الدول الأعضاء في «الناتو» على المشاركة بنحو أكبر وتحمّل مسؤوليات أكثر ضمن الحلف الذي كشفت عمليته في ليبيا نقص قدراته بعيداً من واشنطن حيث وفرت الأخيرة، على رغم ما قيل عن قيامها بـ»القيادة من الخلف»، كل عمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع تقريباً، إضافة إلى قدرات التزويد بالوقود في الجو.

كما أنّ المنظمة «الأطلسية» تولي اهتماماً بالشراكات ومع تحذير وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس من مستقبل محزن لـ»الناتو» في حال لم يوقف الحلفاء الأوروبيون سنوات من خفض الإنفاق على القطاع الدفاعي، فإن «مائدة الأطلسي» شهدت جدالاً واسعاً خلال السنوات الماضية حول ما أطلقه الأمين العام السابق للحلف عن مقاربة «الدفاع الذكي» التي تستهدف عملياً ضمان محافظة التحالف على القدرات اللازمة حتى عندما تقوم بلدان أعضاء في الحلف بخفض كبير للإنفاق العسكري.

وفي ظل غياب أية رغبة حقيقية لدى «أعضاء أطلسيين» كثر تساعد في التوصل إلى مقاربة منسجمة وشاملة بهذا الخصوص، لا سيما بعد مطالبة الأمين العام للحلف الأطلسي قبل أيام لبرلين بزيادة الإنفاق الدفاعي بما ينسجم مع دورها كـ»زعيمة» في ضوء اقتصادها القوي ونفوذها في الشؤون الخارجية، تظهر في المقابل ملامح صراع أطلسي – أطلسي يلتقي في قليل أو في كثير منه حول أطروحة الديبلوماسي الأميركي السابق جيفري غارتن عن «السلام البارد» بين برلين وطوكيو وواشنطن المتمحورة حول التنافس على مقوّمات التفوّق الاقتصادي، خصوصاً إذا ما أشرنا إلى التساؤل الحرج الذي يطرحه كثيرون حول حقيقة ارتباط الأحداث الأوكرانية بتنامي العلاقات الألمانية مع روسيا، الخصم الاستراتيجي لواشنطن. يمرّ الوقت ويكبر التحدي الذي بات يهدّد مستقبل التحالف العسكري الغربي «الناتو» على نحو ما حذرت منه صحيفة «غارديان» البريطانية أخيراً، وفي هذا الصدد تخلص دراسة أعدّها مدير برنامج الأمن الدولي في «المجلس الأطلسي» في واشنطن بالاشتراك مع مدير تحرير «المركز الأطلسي» أنه «يتعيّن على إدارة أوباما أن تضغط على قادة «الناتو» من أجل تطوير بنية واضحة لتنسيق الموارد والقرارات المتعلقة بالموازنات الوطنية، كما يتعيّن عليها أن تكون مستعدة لمساعدتها في القيام بذلك» مع تأكيد «أنّ المضيّ قدماً بخصوص «الدفاع الذكي» يقتضي اتفاقاً حول أيّ القدرات يجب على كلّ الحلفاء الحفاظ عليها وأيّ القدرات يمكن أن تكون مسؤوليات مشتركة بحيث يقوم البعض بتوفير قدرات يستطيع الجميع الاعتماد عليها إذا دعت الحاجة إلى ذلك».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى