الشتاء في الأدب العربيّ بين تغنّي الأجداد وفلسفة الأحفاد
كتبت هناء صقور من دمشق سانا : لم يستهو فصل من فصول السنة شعراء العربية مثل فصل الشتاء، كأنه مصدر وحيهم وإلهامهم، وكأن تساقط الثلوج والأمطار من كبد السماء إيذاناً بانهمار الأفكار والرؤى الشعرية. ولفصل الشتاء وقعه الخاص في نفوس الشعراء، بدليل حضوره الجلي الماثل في روائع نصوصهم، وإن تفاوتت علاقتهم به من حيث التوجس والأمان والحب والكره، تبعاً لعلم البديع والمعاني والبيان وهي من صميم أدوات الشاعر الفنية ونهجه، فيقول الشاعر الراحل محمود درويش واصفا الشتاء أجمل وصف في قصيدته «أحب الشتاء»: «كنت فيما مضى أنحني للشتاء احتراما
وأصغي إلى جسدي.. مطر مطر كرسالة
حب تسيل إباحية من مجون السماء»
أما الشاعر الكبير نزار قباني الذي امتطى جواد الشعر في العصر الحديث فيضيف علاقته الحزينة مع الشتاء في قصيدته «حقائب البكاء»:
إذا أتى الشتاء..
وحركت رياحه ستائري
أحس يا صديقتي
بحاجة إلى البكاء
على ذراعي..
على دفاتري»
كذلك أبدعت نازك الملائكة في وصف المطر والتغني به من خلال قصيدة طويلة حملت عنوان «على وقع المطر» وتقول فيها:
«أمطري لا ترحمي طيفي في عمق الظلام
أمطري صبي علي السيل يا روح الغمام
لا تبالي أن تعيديني على الأرض حطام
وأحيليني إذا شئت جليداً أو رخام»
في جانب آخر، تناقضت رؤية الشاعر العراقي بدر شاكر السياب حيال الشتاء من التشاؤم والحزن إلى الأمل بمستقبل أفضل، لكنه استخدم المطر للدلالة على الخير والتفاؤل قائلاً:
«مطر مطر مطر
سيعشب العراق بألم
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر».
ولشعراء الشعر العمودي أيضاً نصيب كبير في وصف الشتاء ولنا خير مثال الشاعر التونسي المبدع أبو القاسم الشابي إذ يقول:
«يجيء الشتاء شتاء الضباب .. شتاء الثلوج شتاء المطر فينطفىء السحر سحر الغصون .. وسحر الزهور وسحر الثمر وسحر السماء الشجي الوديع .. وسحر المروج الشهي العطر».
لو عدنا إلى قرون خلت لوجدنا الشعراء القدامى يتغنون بالشتاء وبما به من خير، غير أنهم لا ينظرون إليه من زاوية الحزن واليأس والقلق، فالشاعر ابو تمام يصف فصل الشتاء ونعمته على الطبيعة وعلى البشر، رامزاً به إلى الممدوح، فهو لديه بمثابة المقدمة الكبرى التي يمهد بها الشاعر لوصف الربيع قائلاً:
«لولا الذي غرس الشتاء بكفه .. لاقى المصيف هشائما لا تثمر مطر يذوب الصحو منه وبعده .. صحو يكاد من الغضارة يمطر».
اهتم الأدب العربي بالمطر كثيراً، مركزاً على وصفه وذكر تفاصيل ودلالات السحاب والبرق والرعد وجميع الظواهر التي ترافقه عادة، ولا يمكن أن نجد أدباً آخر أكثر غنى في هذا الجانب، والسبب أن العرب أصلاً يعشقون المطر ويستبشرون به خيراً ويرون فيه تشبيهاً لمعشوقتهم فإذا سقط المطر وزاد بشت وجوههم ورقصت قلوبهم فرحاً في هذا العرس الطبيعي البهي. واجتهد العرب منذ القدم في التغني بالمطر، ويعتبر امرؤ القيس أشهر الشعراء الذين كتبوا عنه وتغنوا به إذ وصف البرق والمطر القوي وقال في إحدى قصائده:
«أصاح ترى برقا اريك وميضه .. كلمع اليدين في حبيٍ مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب .. أمال السليط بالذبال المفتل»
لو سبرنا أغوار الشعر العربي لوجدنا أن الشعراء العرب دعوا دوماً لدار المحبوب بالسقيا، مثلما دعوا الغيم الى أن يجوب أرضهم لما في مكنونها من الخير العميم، ففي الدعاء بسقيا ديار الحبيب يقول امرؤ القيس:
«سقى دار هند حيث شطت بها النوى .. احم الذرى داني الرباب ثخين».
لكثرة حبهم للمطر، دأب العرب على تسمية أبنائهم بأسمائه المختلفة فمثلاً كانوا يسمون. مطر ومزنة وهتان، كما سموا. المنذر بن ماء السماء وغيثا وغياثا، ودلالة ذلك ولع العربي بالغيث ومشتقات اسمه وكذلك بسحائب خيره.
ستظل للشتاء وللمطر مكانة خاصة في مجتمعاتنا العربية، فلطالما مثل مصدراً للإلهام لدى بعض الشعراء والكتاب، وتوالدت هذه الصور الجميلة وتعددت لتصوغ أهازيج وأغاني شعبية رقيقة وشائقة تعكس الفرح بقدومه فتصف بهاءه وجماله.