ما زالت خوابينا ملأى بالزيت
الياس عشّي
في العدد الخامس والثلاثين من مجلة «شعر» الصادر في صيف 1967، أي بعد هزيمة أو نكسة في تسمية البعض الخامس من حزيران، قصيدة حواريّة نثرية تحمل توقيعين، واحداً لناديا التويني، وآخر لأنسي الحاج، وعنوانها: «كم هو مرير ولذيذ طعم الحرب في فمي».
ما الذي أعادني نصف قرن إلى الوراء؟
التظاهرة الفولوكلورية التي جرت في فرنسا «تنديداً بالإرهاب»! والتي تصدّرها الطاووس نتنياهو، وشارك فيها بعض العرب!
إنّ ثمّة علاقة بين هذه التظاهرة وقصيدة الحوار التي صدرت في مجلّة «شعر».
العلاقة تتمثل في مقطع يقول:
«أنسي: الغربُ الكلبُ. الشرقُ الفرقُ بين الغرب والكلب.
ناديا: الكلب يحرس الموت. إنه إله الجحيم. الحياة هي ملكه ما دام يعرف الموت.
أنسي: هبطت الحرب علينا من السماء، فواجهناها بالملائكة.
ناديا: أعرف محمود درويش. أعطاني الحبّ العدائي للحجر. أعطاني طعم الدم والدموع المسنونة كالخنجر.
أنسي: في الليل يطير الفدائيون من أفكاري. يغيرون كالشمس كالعواصف.
ناديا: هيّا موتوا. يجب أن تذهبوا حتّى يصبح لنا شهداء. حتّى يصبح لبكائنا سبب».
في التظاهرة الباريسية اكتشفنا أنّ الموت الذي طلبته ناديا تويني هو غيره الذي نراه اليوم. الموت، كما أراه الآن، يمدّ لسانه ويضحك منّا، نحن العربَ، عندما نحن نموت. لم يأبه أحد لموت الأطفال والشيوخ والنساء في غزّة، ولا في قانا، ولا في صبرا وشاتيلا، ولا في سورية، ولا في العراق، ولا في أي مكان من العالم العربي. ولم يلتفت أحد إلى الإعلاميين السوريين الذين ذُبحوا فوق أرضهم، ومرّات كثيرة في مراكز عملهم. لم يسأل أوروپي واحد عن احتكار الفضاء الإعلامي لزيد ومنعها عن عمرو.
ترى، في المقارنة، أي نتائج أسوأ: هل هي نتائج حرب حزيران التي أدّت إلى احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي العربية، أم هي نتائج الربيع العربي الملوّث الذي قتل، ودمّر، وسرق، وقسّم، وزرع الفساد، وحضّ على الحقد، وحوّل الناس إلى متسولين، وتجار بغاء، ونازحين، وربما إلى لاجئين؟
لا مجال للمقارنة، ورغم ذلك تغيّر حبر الكتّاب والشعراء بعد حرب حزيران، وغيّروا أصابعهم، وكسروا أقلامهم العتيقة، وكتبوا بغضب. أنسي الحاج يشبّه الغرب بالكلب، والحمد لله أنه لم يعش حتّى يرى المسرحية الكوميدية الباريسية. وأنسي الحاج يرفض أن تحارب الملائكة عنّا، ويعيد إلينا الإحساس بالواقع ونحن نردّد ما قاله سعاده «تقاتُلُنا على السماء أفقدنا الأرض». ناديا تويني تفتح ذراعيها كي تحضن الشهداء. تعلن حبّها للحجر وللدموع الساخنة المسنونة كالخنجر. لو كانت ناديا تويني حيّة لكفّت عن الكتابة بالحرف الفرنسي.
تُرى ماذا يحدث الآن؟ هل انتهى عصر نزار قباني، وأنسي الحاج، ومحمود ودرويش، وسميح القاسم، وكمال خير بك، وسعدالله ونّوس، ومحمّد الماغوط، ويوسف الخال، ليبدأ عصر انحطاط آخر يتزعمه ميشال كيلو وعزمي بشارة وجلال صادق العظم؟
لا أظنّ… فما زالت خوابينا ملأى بالزيت!