الكاتب جورج فريدمن ممهّداً لكتابه الذي يصدر قريباً: هل يكون حدث «شارلي إيبدو» بداية حرب جديدة بين الشرق والغرب؟

وجدت أنّني بالتفكير في المسألة من الناحية الجغرافية السياسية، يمكنني أن أهدّئ من روعي وأجد تفسيراً على الأقل لحوادث كهذه، حتى وإن لم أتوصل إلى مغزاها. سيصدر لي كتاب جديد في 27 كانون الثاني الجاري تحت عنوان «بؤر التوتر: الأزمة الناشئة في أوروبا» Flashpoints: The Emerging Crisis in Europe أتناول فيه الفشل الذي تكشَّفت عنه التجربة الأوروبية الكبيرة المتمثلة في الاتحاد الأوروبي، وعودة القومية الأوروبية. ويناقش الكتاب عودة ظهور الحدود والمناطق الساخنة في أوروبا ويثير احتمالات فشل المحاولات الأوروبية للقضاء على الصراعات. وأشير إلى هذا الكتاب هنا إذ يتضمن فصلاً حول حدود البحر الأبيض المتوسط والصراع القديم جداً بين الإسلام والمسيحية. فمن الواضح أن هذا الأمر جذب تفكيري، وسوف أتأمل بؤر التوتر للبدء في تقديم فكرة عن القتلة والمقتولين.

اسمحوا لي أن أبدأ بالاقتباس من الفصل المشار إليه:

«تحدثنا عن المناطق الحدودية، وكيف تم ربطها وتقسيمها. هذا حد بحري، يتقاسم الخصائص الأساسية للحد البري، رغم اختلافه عنه في أمور كثيرة. التقارب يفصل بقدر ما يقسّم. فهو يسهّل التجارة، والحرب أيضاً. بالنسبة أوروبا، إنه مجرد حدّ آخر مألوف وغريب إلى حد كبير.

غزا الإسلام بغزو أوروبا مرتين عبر البحر الأبيض المتوسط الأولى في شبه جزيرة أيبيريا التي أطلق عليها المسلمون اسم «الأندلس» ، والثانية في جنوب شرق أوروبا، فضلاً عن اقتناص مناطق في صقلية وغيرها. وغزت المسيحية ديار الإسلام عدة مرات، وكانت المرة الأولى أثناء الحروب الصليبية وفي معركة لطرد المسلمين من أيبيريا. بعد ذلك طردوا الأتراك مرة أخرى من وسط أوروبا. وفي نهاية المطاف عبر المسيحيون البحر الأبيض المتوسط في القرن التاسع عشر، وسيطروا على أجزاء كبيرة من شمال أفريقيا. حاولت تلك الديانتان السيطرة على الأخرى. وبدت كل ديانة قريبة من تحقيق هدفها. إنّما لم تنجح أيّ منهما في مسعاها. والحقيقة الصحيحة الباقية هي أن الإسلام والمسيحية تملّكهما هاجس متبادل من أول لقاء. ومثل روما ومصر، عقدت الديانتان علاقات تجارية في ما بينهما وقامتا بشن حروب على بعضهما بعضا».

كان المسيحيون والمسلمون أعداء ألدّاء، يتقاتلون لأجل السيطرة على إيبيريا. ومع ذلك، وكي لا ننسى، كان لدى كل فريق حلفاء: في القرن السادس عشر، تحالفت تركيا العثمانية مع البندقية للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط. ولا يمكننا تلخيص العلاقة بين هذَيْن الكيانَيْن إلا بالقول: من النادر أن تكون هناك ديانتَان ينتابهما هاجس إزاء بعضها بعضاً وفي الوقت نفسه متناقضتَيْن. فهذا مزيج متفجر.

تعود جذور الأزمة الحالية إلى انهيار الهيمنة الأوروبية على شمال أفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية وحاجة الأوروبيين إلى الأيدي العاملة الرخيصة. ونتيجة للطريقة التي انتهت بها علاقاتهم الاستعمارية، كانوا مضطرين إلى السماح بهجرة المسلمين إلى أوروبا، وساعدت حدود أوروبا القابلة للاختراق على استقرارهم في الأماكن التي فضلوها. لم يأت المسلمون، من ناحيتهم، للانضمام إلى تحوّل ثقافي، إنما جاؤوا للعمل والمال ولأسباب أبسط. والتقت رغبة الأوروبيين في الحصول على الأيدي العاملة الرخيصة مع رغبة المسلمين في العمل، ما أدى إلى توليد حركة واسعة النطاق للسكان.

تعقّدت المسألة بحقيقة أن أوروبا لم تعد مسيحية. فقدت المسيحية هيمنتها على الثقافة الأوروبية على مر القرون السابقة، واقترنت بعقيدة جديدة هي العلمانية إن لم تكن حلّت مكانها. ووضعت العلمانية حدّاً فاصلاً مميزّاً بين الحياة العامة والخاصة، إذ تردَّى الدين، بحسب أي معنى تقليدي، ليصبح شأناً خاصّاً ليست له أي سلطة على الحياة العامة. هناك العديد من أوجه السحر في العلمانية، ولا سيما حرية العقيدة في حياتك الخاصة. لكن العلمانية تطرح أيضاً مشكلة عامة. هناك أولئك الذين تختلف معتقداتهم كثيراً عن معتقدات الآخرين بحيث يتعذر إيجاد أرضية مشتركة في الفضاء العام. وهناك أولئك الذين يعتبرون التمييز بين الشأن الخاص والعام أمراً غير مقبول أو لا معنى له. تتميز الأفكار المعقدة للعلمانية بسحر خاص، ولكنها لا تسحر الجميع.

حلّت أوروبا مشكلة إضعاف المسيحية التي جعلت المعارك القديمة بين الفصائل المسيحية بلا مغزى. لكنها لم تدعُ بدعوة الأشخاص الذين لم يقاسموها المذاهب الأساسية للعلمانية فحسب، بل رفضوها أيضاً. وما اعتبرته المسيحية تقدماً بعيداً عن الصراع الطائفي قد يراه المسلمون وبعض المسيحيين مجرد انحطاط وضعف إيمان وفقدان يقين.

هنا يُثار سؤال حول ما نعنيه عندما نتحدث عن معتقدات مثل المسيحية والإسلام والعلمانية. فهناك أكثر من مليار مسيحي وأكثر من مليار مسلم وعدد لا يُحصى من العلمانيين الذين يجمعون بين الأشياء كلّها. ومن الصعب أن تقرر ما تعنيه عندما تتحدث عن هذه المعتقدات وتزعم في سهولة أن المعنى الذي يقرره أحد هذه المعتقدات هو الصحيح أو غير الصحيح . هناك عدم تحديد كامن في استخدامنا للغة التي تسمح لنا بإلقاء المسؤولية عن جرائم باريس بعيداً عن أحد الأديان إلى فرع صغير في دين آخر أو جرائم أولئك الذين ضغطوا على الزناد. هذه هي المشكلة العالمية للعلمانية التي تتجنب القوالب النمطية فهي لا تحدد بوضوح مَن المسؤول عن ماذا، وبإسناد المسؤولية كلّها على الفرد، تميل العلمانية إلى إعفاء الأمم والأديان من المسؤولية.

هذا ليس خطأ بالضرورة، بيد أنه يخلق مشكلة عملية هائلة. اذا لم يكن أحد غير المسلحين وأنصارهم هم المسؤولون عن الحادث فحسب، بينما جميع الآخرين الذين يشتركون معهم في العقيدة أبرياء، أصدرتُ حكماً أخلاقياً يمكن الدفاع عنه. لكن من الناحية العملية، سلبت نفسك القدرة على الدفاع عن نفسك. فمن المستحيل الدفاع عن العنف العشوائيّ ومن غير المسموح فرض مسؤولية جَمْعِيّة. شكّل التعقيد الأخلاقي مشكلةً لأوروبا لا يمكنها حلها بسهولة. وكانت تلك حالها لفترة طويلة. فليس جميع المسلمين- ولا حتى معظمهم- مسؤولين عما حدث. لكن جميع الذين ارتكبوا هذه الأفعال كانوا مسلمين يزعمون أنهم يتحدثون باسم المسلمين. يمكن للمرء أن يقول هذه مشكلة المسلمين ثم يلقي بمسؤولية حلّها على المسلمين. ولكن ماذا يحدث إذا لم يضعوا حلاً لها؟ هكذا تدور المناقشة الأخلاقية إلى ما لا نهاية.

تتفاقم هذه المعضلة بالسرّ الخفي لأوروبا فالأوروبيون لا يعتبرون المسلمين من شمال أفريقيا أو تركيا أوروبيين، كما أنهم لا ينوون السماح لهم بأن يكونوا أوروبيين. ويكمن الحل الأوروبي لعزلتهم في مفهوم التعددية الثقافية. على السطح فكرة أكثر ليبرالية، وعند التطبيق حركة للتشرذم الثقافي والعزلة المكانية. إنما هناك مشكلة أخرى وراء هذا، وهي مشكلة جيوسياسية أيضاً. أقول في كتاب «بؤر التوتر» الآتي:

«واجهتْ التعددية الثقافية ومشروع المهاجرين الكامل تحدياً آخر. كانت أوروبا مزدحمة. وعلى النقيض من الولايات المتحدة، فإنها لم تتمتع بمساحة تمكّنها من دمج الملايين من المهاجرين. خاصة بشكل دائم. وحتى مع انخفاض عدد سكانها ببطء، كان من الصعب السيطرة على الزيادة في عدد السكان، ولا سيما في البلدان الأكثر اكتظاظاً بالسكان. وشجع مذهب التعددية الثقافية بشكل طبيعي على درجة من الانفصال. تنطوي الثقافة على الرغبة في العيش مع شعبك. وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي للمهاجرين في جمع أنحاء العالم والإقصاء الحتمي الذي ربما يتم تضمينه من دون قصد في التعددية الثقافية والرغبة في العيش مع الأقران المشابهين. وجد المسلمون أنفسهم يعيشون في ظروف مزدحمة وبائسة جداً. ثمة في جميع أنحاء باريس مبانٍ سكنية شاهقة تؤوي المسلمين وتفصلهم عن الفرنسيين الذين يعيشون في أماكن أخرى».

بطبيعة الحال، لا علاقة بين الفقر وعمليات القتل هذه. فالمهاجرون الجدد هم فقراء دوماً، ولهذا يهاجرون. وحتى تعلّمهم اللغة وعادات بيوتهم الجديدة، يعيشون غالباً في عزلة مثل غرباء. الجيل التالي هو الذي يتدفق في الثقافة المهيمنة. لكن النتيجة للسر القذر للتعددية الثقافية هي إدامة عزلة المسلمين. لم يكن في نية المسلمين أن يصبحوا أوروبيين، حتى لو استطاعوا. لقد جاؤوا لكسب المال لا ليصبحوا فرنسيين. من هنا تتحول ضحالة النظام القيمي الأوروبي لما بعد الحرب إلى الواقعة المرعبة التي حدثت في باريس الأسبوع ما قبل الفائت.

في حين أن الأوروبيين يعانون مشاكل معينة مع الإسلام، واستقبلوهم منذ ألف عام، هناك مشكلة أكثر تعميماً. نفدت الحماسة الإنجيلية من المسيحية ولم تعد تستخدم السيف لقتل أعدائها وتحويلهم إلى المسيحية. لا تزال بعض المناطق الإسلامية على الأقل تحتفظ بتلك الحماسة. والقول بأن كل المسلمين لا يتقاسمون هذه الرؤية لا يحل المشكلة. فهناك عدد كافٍ من المسلمين الذين يتبنون هذه الحماسة يدفعهم إلى تعريض حياة الذين يحتقرونهم للخطر، وهذا الميل نحو العنف لا يمكن السكوت عنه من قِبَل أهدافهم الغربية أو المسلمين الذين يرفضون الاشتراك في الفكر الجهادي. ولا طريقة للتمييز بين أولئك الذين قد يقتلون وسواهم من الذين لن يسلكوا هذا النهج. قد يستطيع المجتمع المسلم إدراك هذا التمييز، ولكن الشرطي الأوروبي أو الأميركي البالغ من العمر 25 عاماً لا يمكن إدراك ذلك. ولا يستطيع المسلمون أن ينخرطوا في سلك الشرطة أو هم لا يريدون ذلك. لذا، لم يبق لدينا إلا حالة حرب. وقد وصف رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس هذه المسألة بأنها حرب على الإسلام الراديكالي. ولن يمثّل قتال المتطرفين مشكلة إذا كانوا يرتدون زياً رسمياً أو يحملون شارات مميزة. ولكن رغم التمييز الذي أطلقه فالس، فإما أن يقبل العالم أي هجمات دورية أو يرى المجتمع المسلم كلّه باعتباره تهديداً محتملاً حتى يثبت العكس. إنها خيارات رهيبة، بيد أن التاريخ مليء بأمور مشابهة. إن الدعوة إلى الحرب على الإسلاميين المتطرفين تشبه الدعوة إلى الحرب على أتباع جان بول سارتر!

إن عدم قدرة أوروبا على التصالح مع الواقع الذي أوجدته لنفسها في هذه المسألة وغيرها لا يحول دون إدراك أن الحروب بين القوات تحدث في كثير من البلدان الإسلامية. الوضع معقد، والأخلاق مجرد سلاح آخر لإدانة الآخر وتبرئة الذات. ولكن لا تُذعن الأبعاد الجيوسياسية لعلاقة الإسلام مع أوروبا أو الهند أو تايلاند أو الولايات المتحدة للمواعظ.

ينبغي فعل شيء. لا أعرف ما ينبغي القيام به، لكنني أعتقد أنني أعرف ما هو آت. أولاً، إذا كان صحيحاً أن الإسلام يستجيب فحسب للجرائم التي تُرتكب ضده، فتلك الجرائم ليست جديدة، وبالتأكيد لم تنشأ مع قيام دولة «إسرائيل» أو غزو العراق أو الحوادث الأخيرة. حدث ذلك منذ وقت أبعد بكثير. على سبيل المثال، كانت هناك فرقة من القتلة المتعصبين يُعرفون باسم «الحشاشين» ويشكّلون جزءاً من نظام إسلامي سري لشن الحرب على الأفراد الذين يعتبرونهم زنادقة. لا شيء جديداً في ما يجري، ولن ينتهي إذا حلّ السلام في العراق واحتل المسلمون كشمير أو دمروا «إسرائيل». ولا إذا أوشكت العلمانية أن تجتاح العالم الإسلامي. خلق الربيع العربي وهماً غربياً بأن انهيار الشيوعية عام 1989 يعيد نفسه في العالم الإسلامي بالنتائج نفسها. هناك بالتأكيد ليبراليون وعلمانيون مسلمون، لكنهم لا يتحكمون في الحوادث – ولا حتى مجموعة واحدة- وهذه الحوادث، ولا النظريات، هي التي تشكّل حياتنا.

إن الشعور الأوروبي بالأمة يتجذر في التاريخ المشترك واللغة والعرق وفي المسيحية أو العلمانية وارثتها. ولا تعرف أوروبا مفهوم الأمة إلاّ عبر هذه الأمور، ولا يشاركها المسلمون أيّاً من تلك الأمور. فمن الصعب أن نتصور نتائج أخرى سوى جولة أخرى من العزلة المكانية والترحيل. وهذا الأمر مثير للاشمئزاز لمشاعر الأوروبيين الآن، لكنه ليس بالتأكيد غريباً على التاريخ الأوروبي. وستتحرك أوروبا في هذا الاتجاه بشكل زائد وبلا قصد، غير قادرةٍ على التمييز بين المسلمين المتطرفين والمسلمين الآخرين.

من المفارقات أن ذلك تماماً ما يريده المسلمون المتطرفون فذلك سوف يعزز موقفهم في العالم الإسلامي عامة، وشمال أفريقيا وتركيا خاصة. لكن، يتمثل البديل لعدم تعزيز الإسلاميين الراديكاليين في العيش مع التهديد بالقتل إذا تعرضوا للإساءة، وذاك ما لن تتحمّله أوروبا.

قد يُعثر على جهاز سحري يمكّننا من قراءة عقول الناس لتحديد ما هي إيديولوجيتهم الحقيقية. لكن نظراً إلى الانتقادات الكثيرة التي وُجّهت إلى الحكومات التي تقرأ رسائل البريد الإلكتروني، أشكّ في أن الأوروبيين سيسمحون بذلك، ولا سيّما بعد مرور بضعة أشهر من الآن ويشرعون في نسيان القتل والقتلة، ويقنع الأوروبيون أنفسهم بأن الجهاز الأمني يحاول اضطهاد الجميع. لا نقلل بالطبع من احتمالات الممارسات القمعية لقوات الأمن.

تتسم الولايات المتحدة بالاختلاف في هذا الصدد. فهي نظام اصطناعي، وليس طبيعياً. صمّم آباؤنا المؤسسون على مبادئ معينة ومفتوحة لمن يحتضن تلك المبادئ. وتتميز القومية في أوروبا بأنها رومانسية وطبيعية، ويتوقف ذلك على الروابط التي تمتد عبر الزمن والتي لا يمكن كسرها بسهولة. بيد أن فكرة المبادئ المشتركة غير مبادئهم مسيئة للمتدين في كل مكان، وفي هذه اللحظة من التاريخ يعتبر النفور الأكثر شيوعا حالياً بين المسلمين. حقيقة يجب مواجهتها.

كانت حدود البحر الأبيض المتوسط موضع صراع قبل ظهور المسيحية والإسلام. وسوف تبقى موضع صراع حتى لو فقد كل منهما حبه لمعتقداته الخاصة. ومن الوهم أن نعتقد بإمكان إنهاء الصراعات المتجذرة في الجغرافيا. ومن الخطأ أيضاً أن تكون فلسفيّاً بحيث تنفصل عن الخوف البشري من التعرض للقتل في مكتبك بسبب أفكارك. إننا ندخل منطقة ليس فيها حلول إنما قرارات، وستكون جميع الخيارات سيئة. سيُنجز ما ينبغي إنجازه، وأولئك الذين يرفضون تحديد خياراتهم سينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم أكثر أخلاقية من أولئك الذين اختاروا بالفعل. إنها حرب، وهي مثل الحروب كلّها، تختلف كثيراً عن آخر مرة حدثت فيها. ورغم كل شيء، إنها حرب، وإنكارها يعني إنكار ما هو واضح بالفعل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى