دلالات الموازنة العسكرية الأميركية لعام 2015
د. إبراهيم علوش
لا تزال الولايات المتحدة الدولة الأكثر إنفاقاً على التسلّح في العالم، بحسب تقرير معهد ستوكهولم لدراسات السلام الذي نُشر الأسبوع الفائت، إذ بلغت موازنتها العسكرية 640 مليار دولار لعام 2013، من أصل 1،75 ترليون دولار تمثل مجموع الإنفاق العسكري العالمي. وحلّت الصين في المرتبة الثانية بموازنة قدرها 188 مليار دولار، تليها روسيا في المرتبة الثالثة بموازنة قدرها 88 مليار دولار.
العبرة أن الموازنة العسكرية الأميركية إلى انخفاض، فيما الموازنتان العسكريتان الصينية والروسية إلى ارتفاع مقارنة بالسنوات السابقة. إذ انخفض الإنفاق العسكري الأميركي 7،8 عام 2013 مقارنة بالعام الذي سبقه، فيما ارتفع الانفاق العسكري الصيني 7،4 ، والروسي 4،8 ، في الفترة نفسها، بحسب التقرير عينه. ونُشرت الشهر الفائت أرقام الموازنة العسكرية الأميركية للعام 2015، لتعكس انخفاضاً جديداً في مخصصات وزارة الدفاع الأمريكية الدورية غير موازنة حرب أفغانستان والنفقات الأمنية من 553 مليار دولار قبل ثلاث سنوات إلى 496 مليار دولار للعام 2015!
ويترافق ذلك مع توجه إلى خفض عدد القوات المتفرغة غير الحرس الوطني والاحتياط إلى أقل مستوى لها منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، فيهبط عدد الجنود الأميركيين المتفرغين من 520 ألفاً حالياً إلى 420 ألفاً بحسب وسائل الإعلام الأميركية…
في الآن عينه، ثمة توجه، وهذا الأهم، إلى تغيير البنية العسكرية الأميركية نحو زيادة القوات الخاصة وتحسين نوعيتها والطائرات بلا طيار والحرب الإلكترونية، تزامناً مع زيادة وسائل التدخل عبر ما يسمى «القوة الناعمة» غير العسكرية. ويشير أميركيون إلى التضحية بقدرة الولايات المتحدة على خوض حربين مختلفتين في آنٍ واحد، وهو المبدأ العسكري الاستراتيجي الذي تبنته الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، ليصبح المبدأ المعتمد الآن القدرة على خوض حرب واحدة حاسمة زائد القدرة على الردع والدفاع في حرب أخرى ريثما تُحسم الحرب الأولى.
في الحالتين، لا شك في أن ثمة تحولاً مفصلياً في البنية العسكرية الأميركية وتوجهها نحو: 1- التخلص من القدرة على ممارسة الاحتلال الدائم للأراضي الأجنبية، مع زيادة القدرة على التدخل فيها عسكرياً، 2- تقليص حجم القوات المتفرغة والعتاد العسكري، مع رفع المستوى التكنولوجي للجيش عامة.
من البديهي أن يعكس خفض الموازنة العسكرية الأميركية في أحد جوانبها منحنى الأفول العام للإمبريالية الأميركية كما تتجلى في أزمة الموازنة الحكومية والدين العام، وهذا الأفول ساهمت فيه حرب العراق أساساً ثم أفغانستان، بالإضافة إلى الأزمات المالية، ومنها أزمة العام 2008. ولا شك في أن خفض سقف القدرة العسكرية الاستراتيجية للولايات المتحدة من خوض حربين هجوميتين مختلفتين في آنٍ واحد إلى واحدة هجومية وأخرى دفاعية يعكس مثل هذا التدهور المترافق مع تزايد القدرات العسكرية الاستراتيجية لدول البريكس وفي مقدمها الصين وروسيا.
لكن ثمة تغييرات أخرى، أكثر عمقاً، في البنية العسكرية الأميركية، ما يعكس تحولات جوهرية في النظام الرأسمالي العالمي نفسه، وبالتالي في عقيدة أذرعها العسكرية. فتقليص حجم القوات والعتاد اللازمة لممارسة احتلال، مع زيادة القدرة على ممارسة التدخل عبر القوات الخاصة والطائرات بلا طيار والحرب الإلكترونية، يعكس انتقال الاقتصادات المتقدمة للاعتماد أكثر على «المعرفة المتخصصة» أكثر من القوة العاملة وراس المال المادي، أي عسكرياً، على الجندي والدبابة. كما يعكس الفرق بين مصطلح «إمبريالية» ومصطلح «استعمار»، فالإمبريالية المعاصرة،كمنظومة هيمنة دولية متعددة البعد، تتطلب تدخلات عسكرية لإخضاع الدول والحركات المتمردة، من دون احتلالات طويلة المدى بالضرورة، على عكس الاستعمار الذي يعني احتلال الأرض والبقاء فيها.
يتركز مشروع النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، مذ وصل أوباما للحكم، على: 1- إخراج الولايات المتحدة من مستنقعات الحروب المباشرة المترافقة مع احتلالات، 2- إعادة توجيه أولويات السياسة الخارجية الأميركية نحو احتواء التمدد الصيني في منطقة المحيط الهادئ، على حساب التركيز على المنطقة العربية والإسلامية، 3 اللجوء على نحو متزايد إلى أدوات «القوة الناعمة» لتفكيك الدول ولجم النزعات المستقلة عن الإمبريالية بالترافق مع الاستخدام المكثف للعمليات الخاصة الخارجية، كما في حالة اغتيال بن لادن، والطائرات بلا طيار، كما في الباكستان واليمن.
يمثل العدوان على ليبيا عام 2011 نموذجاً للتدخل العسكري الإمبريالي المباشر بلا احتلال مباشر، بينما يمثل العدوان على سورية منذ 2011 نموذجاً للتدخل العسكري الإمبريالي غير المباشر عبر أدوات محلية سورية وعربية وإسلامية ، وتمثل حالتا أوكرانيا وفنزويلا حديثاً نموذجاً للتدخل الإمبريالي غير العسكري بأدوات «القوة الناعمة» فحسب… التي يمكن أن تمهد لتدخل عسكري عند الضرورة.
إذا كان هناك شبه إجماع ضمن النخبة الحاكمة الأميركية على إجراء تحولات جذرية في البنية العسكرية الأميركية، بسبب أزمة الموازنة ولأجل تطوير وسائل إسقاط القوة الأميركية دولياً ووسائل التدخل العسكري بلا احتلال، فإن ثمة خلافاً شديداً حول السياسات التي يتبعها أوباما، خاصة في سورية وأوكرانيا، ويعتبر الجمهوريون واللوبي الصهيوني أن أوباما مقصر في التدخل العسكري في سورية، وأنه مقصر في أشكال التدخل الأخرى في أوكرانيا، ولاحتواء روسيا عامة.
تدور مناظرات حادة حول فاعلية سياسات أوباما الخارجية من عدمها في وسائل الإعلام الأميركية. لكن الأمر المؤكد هو أن تخفيض القدرة الاستراتيجية للولايات المتحدة على خوض الحروب الشاملة سيترك فراغاً لا يمكن إلاّ أن تملأه دول البريكس، ما سينعكس حتماًعلى ميزان القوى العالمي. كما تظهر تجربة سورية وفنزويلا وأوكرانيا حدود وسائل التدخل غير المباشر العسكري وغير العسكري. لذا يمكن أن تُفسر «حيادية» الكيان الصهيوني في مسألة أوكرانيا، في أحد وجوهها، بخوف الكيان الصهيوني من أن يترك وحيداً في مواجهة الدب الروسي الهائج في الملعب الإقليمي، في ظل رفض إدارة أوباما أن تعود إلى التدخل العسكري المباشر مجدداً.