في ذكرى «ثورة يناير»… كلّ عام وأنت بخير يا مصر
خضر سعاده خرّوبي
هناك مسلمة أساسية يمكن أن ننطلق منها لدى الحديث عن مصر، وهي أنّ الدول الإقليمية الكبرى تتحرك على أساس أنّ مصالحها الاستراتيجية تتعدّى محيطها المباشر، وأنّ أمنها القومي يتأثر بتطورات إقليمية ودولية. تطرح إدارة علاقات مصر الخارجية، خصوصاً مع القوى الكبرى، بحكم توازناتها وتعقيداتها، وضرورات مصالحها، تحديات متشابكة تفرض على صانعي القرار إدارة العلاقات بحذر لا يخلو من حكمة تستفيد من معطيات الواقع الدولي الراهن بكلّ ما ينطوي عليه من أطر ومسارات متعدّدة للتعاون ينبغي تفعيلها مع مختلف القوى الدولية.
وشكل انتخاب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي محطة أمل راهن عليها الملايين داخل مصر وخارجها لتصحيح مسار «ثورة 25 يناير»، ولاستعادة القاهرة مكانتها ودورها إقليمياً ودولياً. وعلى رغم السجال الذي يحيط بدخول وزير الدفاع السابق إلى المشهد السياسي في مصر، إلا أنّ الرئيس المصري القادم على أكتاف «ثورة 30 يونيو» ما زال يتلمّس الخطى لترتيب علاقات مصر مع الخارج.
والمفارقة أنّ مظاهر «السيسي مانيا» التي اجتاحت مصر والعالم العربي في آن، جاءت على وقع توتر الحكم الجديد مع واشنطن «الشريك الحذر» للنظام الإخواني الذي أُطيح به في أعقاب ما ظلت واشنطن تعتبره حتى وقت قريب انقلاباً عسكرياً يُعدّ السيسي المتهم الرئيسي فيه.
أول غيث «التوتر» كان إلغاء واشنطن مناورات عسكرية مشتركة مع مصر، ثمّ استتبع لاحقاً بوقف المساعدات العسكرية المقدمة لها قبل أن يبدأ منحنى الموقف الدولي المتشدّد إزاء مصر بالانكسار التدريجي تحت ضغط الإرهاب الضارب إقليمياً ودولياً في ركاب شحن طائفي، ومع الحاجة إلى ظهير عربي قادر على تخريج حلّ سياسي للأزمة السورية الذي يتردّد أنّ القاهرة تمثل عاصمته الإقليمية، في حين تمثل موسكو راعيه الدولي التي يكثر الحديث عن حجم علاقاتها المتنامي مع القاهرة الساعية إلى تنويع «سلالها الدولية»، حيث شكل توقيع الطرفين بعد «ثورة يونيو» على اتفاقات تسليحية وزيارة قطع حربية روسية ميناء الإسكندرية، تطورات غير مسبوقة منذ عقود. وعلى رغم معوقات التحدي البيروقراطي على دور الخارجية المصرية، يتحدث خبراء عن فرص متاحة لسياسة براغماتية متكاملة تنطلق منها الرؤية المصرية في نظرتها إلى خياراتها الخارجية تقوم على إدراك واضح للمصالح الوطنية، والحفاظ عليها، وفي الوقت نفسه إدراك توازنات وحسابات تبادل مصالح تعكس حجم دولها في ظلّ رغبة واضحة في تجاوز الإرث الكارثي لسياسات مبارك المنحازة إلى الغرب، مع التركيز على أسس تعاونية تعدّ جميعها ركائز ومحاور مطلوب صياغتها في رسائل وتحركات مصرية واضحة وسريعة باتجاه دول الإقليم والعالم كتلك مع الصين، ودول الخليج، وكذلك الدول الغربية التي يسعى السيسي من خلال العمل معها إلى تطبيع الوضع السياسي في الداخل ومحاولة إثراء المرجعية القانونية والحقوقية خارجياً، من أجل استعادة ثقة «المجتمع الدولي» ومعه ثقة المستثمرين.
ولا يمكن لأحد أن يغفل عن القول إنّ زيارات السيسي الخارجية تنطوي على محاولة لتقديم نظامه الجديد الى العالم. وبالنظر إلى أنّ النقطة والركيزة الأساسية لانطلاق أية سياسة خارجية نشطة وقوية تعتمد على الأوضاع الاقتصادية المستقرة، وذلك على المستوى الداخلي، من تحقيق نمو اقتصادي داخلي، أو على المستوى الخارجي المتمثل بالاندماج في «الاقتصاد العالمي»، يمكن التجربة الصينية في التنمية ان تمثل نموذجاً يُحتذى به، بخاصة انّ الصين تدرك حجم الفرص الاقتصادية الواعدة في مصر إذا ما توافر قدر من الرشد والحكمة لدى صانع القرار فيها لمزايا السوق المصرية لتجارتها. كما لا يخفى حجم المكانة والدور الذي تمثله مصر في الشرق الأوسط وهو أمر بإمكان القاهرة ان توظفه في توثيق العلاقات الاقتصادية مع الصين وتطويرها على نحو تكون فيه أكثر إفادة وتوازناً. مع العلم أنّ الصينيين على استعداد أكبر من غيرهم من الأطراف الدولية الأخرى لدعم عملية النهوض الاقتصادي المصري بما في ذلك توفير الدعم المالي بالقروض والمنح بعيداً من شروط المانحين الدوليين كالبنك الدولي الذي يتعرّض لمنافسة من قبل هيئات أخرى يقف خلفها تجمع «بريكس» الذي تعدّ الصين ضلعه الرئيسي.
وينظر إلى إعادة ملف التعاون مع دول حوض النيل، على أنه تأكيد لنمط التفاعل الإيجابي القائم على الشراكات، والذي تسعى الخارجية المصرية للعمل في إطاره، مع الإشارة إلى علاقة بكين العميقة بأثيوبيا وما قد تتيحه «القوة الناعمة» الصينية من قوة مضافة لتوجه النظام المصري نحو عمقه الأفريقي في مسائل مثل «سدّ النهضة» إذا ما شهدت الأيام المقبلة تفعيل «الشراكة الاستراتيجية» التي وقعها الرئيس المصري لدى زيارته الصين، وهو مستوى لا تمنحه بكين إلا لعدد محدود من الدول.
وعلى رغم المنهج التعاوني الذي يتبناه الرئيس المصري مع العالم الخارجي، فإنّ تعزيز العلاقات مع دول إقليمية كإيران وتركيا يشكل في حدّ ذاته نقطة إشكالية أمام تعزيز العلاقة مع دول أخرى كدول الخليج التي تسخى على القاهرة مادياً واقتصادياً لأسباب يراها البعض تتخطى المشاعر والبواعث العاطفية وتقترب أكثر في مقاربة القضية الفلسطينية، في حين تنظر الأخيرة إلى العلاقات مع تلك الدول باهتمام كونها التطبيق العملي لرؤيتها المؤسّسة على أنّ أمن الخليج جزء من الأمن القومي المصري. وتوصل الخبراء في السياسة الخارجية إلى أنّ توجهات مصر في هذا المجال هو «بيع سياسة» و«شراء اقتصاد»، فما الذي تقدر مصر أن تقدمه إلى دول العالم والإقليم، والخليج ضمناً؟