«حوار موسكو»… خارج الزمان والمكان!
خالد العبود
أمين سرّ مجلس الشعب السوري
كثيرون هم الذين لم يستطيعوا فهم الحاصل في سورية، وكثيرون هم الذين قدّموا قراءات توافق مصالحهم وأحلامهم وشهواتهم، وكثيرون هم الذين أخذوا بقراءات افتراضية كانت تؤسّس لها مواقع تواصل اجتماعي وكاميرات عملاء ومرتبطون ومندسّون، الأمر الذي جعل كثيراً من هؤلاء يساهمون سلباً في تشكيل كرة النار التي أتت على الوطن السوري، دولة ومجتمعاً!
حيث كانت أقدامهم وعقولهم وشهواتهم وبطونهم تنزلق أكثر فأكثر، باتجاه الورطة الكبرى، الورطة التي لم يستطع كثيرون من هؤلاء الانسحاب منها، وأضحوا بحاجة ماسة للبحث عن شرعية مواقف وتبريرها تحت أيّ عنوان كان، الأمر الذي أدى إلى فرز وإنتاج أدبيات وخطاب جديدين لا ينتميان في عناصرهما الرئيسية إلى أدنى مفاهيم ورئيسيات الوطنية التي قدّموا أنفسهم على أنهم حرّاس لها!.
كرة النار هذه لم تتراجع ولم تتوقف، لكنّها «تشرعنت» إلى حدّ بعيد، والشرعنة هنا لا نعني بها شرعية أخلاقية أو وطنية أو حتى إنسانية، وإنما هي شرعية «سياسية»، جاءت باتجاهين رئيسيين، وذلك بعد أن اكتملت كرة النار واستوت تماماً للوصول إلى كامل زوايا الوطن السوري، بالمعنى الميداني العسكري والمعنى السياسي أيضاً، فميدانيّاً يستطيع أيّ طرف إقليمي اليوم أن يتحدث عن حقّ «المعارضة» في مواجهة الدولة، ويستطيع أن يتحدث عن حقّ «السوريين» في الدفاع عن أنفسهم في وجه «السلطة»، حتى لو أنّ كلّ الأسماء الحقيقية السورية التي شكّلت رافعة العمل المسلح ضدّ الدولة أعلنت أنّها ضدّ هذا العمل المسلح، باعتبار أنّ «العمل المسلح» أضحى في مكان آخر جديد، كون أنّ قوى العدوان ذاتها لم تعد بحاجة إلى مشروعية أحد من السوريين، حيث استطاعت هذه القوى الإقليمية والدولية انتزاع مشروعية العمل المسلح من بعض السوريين الذيي ساهموا فيه، وبالتالي فإن هذا العمل لم يعد عملاً سوريّاً داخليّاً أو خارجيّاً، بمقدار ما أضحى عملاً إقليميّاً ودوليّاً تحركه قوى مستفيدة منه في مواجهة الدولة السورية.
كذلك بالنسبة للعمل السياسي، فقد أضحت مشروعية العمل السياسي ضدّ الدولة السورية في مكان آخر تماماً، نتيجة تطور المشهد الكلي للمواجهة الحاصلة في المفصل السوري، وعلى مستوى كامل جغرافيا الإقليم، حيث بدا واضحاً أنّ هناك «سوريين» ساهموا جيّداً في تشكيل رافعة عدوان سياسية على الدولة السورية، ومنحت هذا العدوان مشروعية كانت مطلوبة من أجل استعمالها في وجه الدولة السورية وفي وجه قيادتها، فليس مهمّاً اليوم أن تبقى هذه الرافعة أو أن تذهب، كون أن تدحرج كرة النار أوصلها إلى المكان الذي مكّن قوى إقليمية ودولية من انتزاع هذه المشروعية في معزل عمّن منحهم إيّاها.
كان ذلك واضحاً في شكل جليّ خلال تشكيل هذه الاصطفافات التي تشكلت على مدار مراحل العدوان، والتي كانت تعطي المشروعية لكلّ عمل ميداني ضد الدولة، ونعني به العمل العسكري المسلح، وهو ما كان مطلوباً بالضبط، ولكن بعد انقضاء فترة من الزمن لم يعد مطلوباً أن توافق هذه القوى أو لا توافق على هذا العمل المسلح، وعلى سبيل المثال فإنّ ما يسمى «بهيئة التنسيق» بقيادة المدعو «حسن عبد العظيم» هي التي أعطت داخليّاً وخارجياً مشروعية العمل المسلح لما سميّ «بالجيش الحرّ»، على أنّه كان يدافع عن «المتظاهرين» في وجه سلطات الدولة، باعتبار أنّ المشهد كان مطلوباً أن يقدّم على أنّ الدولة من خلال سلطاتها كانت تعتدي على «المتظاهرين»، وبالتالي لا بد من تأمين الحماية الكاملة لهم، فكان ما سميّ «بالجيش الحر»!.
الغريب في المشهد أنّ ما سميّ «بالجيش الحرّ» الذي أعدّ وأعطي المشروعية كي يحمي «المتظاهرين» هو الذي قاد العدوان على مؤسسات الدولة وفي مقدمها مؤسسة جيش الدولة، وتطوّرت هذه «المشروعية» وامتدت كي تصل إلى أن يقود هذا «الجيش» لواء «التحرير»، «تحرير الأرض السورية»، من قبضة «سلطة الدولة»، باعتبار أنّ الدولة أضحت في أعين هؤلاء «محتلة للأرض وسارقة للسلطة»!.
نعم هي مفاهيم مضحكة وعناوين سوف يمرّ عليها أبناء وأحفاد لنا في يوم من الأيام ولن يتردّدوا لحظة واحدة في وصف هؤلاء بأنهم رأس الخيانة والعمالة، لكننا الآن نتحدث عنها كلحظة سياسية وميدانية واقعية لكنها غير موضوعية.
ومن قلب ما سميّ «بالجيش الحرّ» خرجت مجموعات واسعة أطلقت عليها أسماء كبيرة، لكنّها جميعها كانت مجموعات شكّلتها أجهزة استخبارات قوى إقليمية ودولية، ومنحتها «الشرعية» أسماء سياسية داخلية وخارجية، وتحوّلت هذه المجموعات إلى حقيقة أمر واقع، لم يعد بمقدور من أعطاها الشرعية أن يسحبها منها، الأمر الذي أحدث مفارقة هامة جداً في صيرورة العدوان وتفاصيل خريطة المواجهة، وهو أنّ القوى الإقليمية التي أعدت العدّة لمثل هذه المرحلة وهذه اللحظة لم تعد بحاجة إلى تلك «المشروعية»، فقد تجاوزت هذه الأسماء وبدأت تتحدث باسمها، من دون قدرة هذه الأسماء على أن تسحب «المشروعية» التي منحتها لهذه المجموعات أو هذه المرحلة الجديدة.
في هذه اللحظة بالذات، اللحظة التي لم يعد ضروريّاً فيها أن يوجد «طرف سياسي سوري معارض» يمتلك إمكانية منح «مشروعية» التدخل الإقليمي والدولي في شؤون الداخل السوري، تقدمت روسيا بالدعوة إلى لقاء «موسكو»، من أجل التمهيد لحوار سوري سوري، يضع حلاً سياسيّاً للأزمة السياسية التي كانت في حقيقتها نتيجة من نتائج العدوان على سورية، أملاً في سحب ذريعة من ذرائع العدوان ذاته.
ما نراه في الأفق أنّه مهما كانت نتائج اللقاء، سلباً أو إيجاباً، لجهة تطلعات وأجندات كلّ طرف، وبغض النظر عن وطنية هذه المواقف من عدمها، فإننا نرى أنّ كرة النار أضحت في مكان آخر تماماً، وكل هذه الأسماء المدعوة إلى «موسكو» للقاء الحكومة السورية، أو من يمثلها، إنما هي أسماء غير قادرة على ضمان أيّ شيء يمكن أن يُصرف ميدانياً وعسكريّاً، ولا حتى سياسيّاً، إضافة إلى كونها أسماء لأفراد ما زال يحمل الكثيرون منهم تطلعات شخصية هزيلة، لها علاقة بأطماع سلطوية لا تتجاوز حدود وجوده في زاوية من زوايا السلطة التي كان ينتقدها، إضافة إلى بعض آخر يبحث عن معبر عودة إلى الوطن السوري بعد أن تورط في تفاصيل كرة النار ذاتها.
«موسكو» لن يحمل شيئاً جديداً للسوريين، ولن يستطيع أن يردّ عنهم شيئاً على الإطلاق، المعركة أصبحت في مكان آخر تماماً، والأسماء التي حضرت إلى «موسكو» جاءت تحاور خارج الزمان والمكان!