تمارين رئاسيّة للحرق… أو لـ«ردّ الاعتبار»
جورج كعدي
كان صديقي الأديب الكبير الراحل فؤاد كنعان يقول لدى بلوغ الأمور دَرْكها الأسفل: «هَزُلَتْ»، أيّ بلغت أقصى درجات سَخَفها وانحطاطها.
وفي الموسم الانتخابيّ الرئاسيّ الراهن لا أجد تعبيراً أفضل من تعبير الأديب الساخر الذي عاصر زمناً سياسيّاً مديداً لم يَخْلُ من عجائب ومهازل، وحروباً أهليّة ألهمت وحشيّاتها وعبثيّاتها قلمه المرّ وأسلوبه فريد البلاغة.
حيال المشهد الافتتاحيّ للعرض الرئاسيّ الطويل، مع ترشّح «حكيم القوّات» والسيّد هنري الحلو، لا يقفز إلى الذهن وصف أبلغ من «هَزُلَتْ»، فالأوّل لم يجد أفضل، لا هو ولا مرشّحوه أو متبنّو ترشيحه، من هذا الترشّح الخاسر سلفاً وبيقين تامّ ونتيجة محسوبة ومحسومة فشلاً، لردّ اعتبار مفقود من سنوات طويلة، أيّ منذ التاريخ الميليشاويّ و»مآثره» التي لا تُحصى، إلى مرحلة السجن، مروراً بالمحاكمات وأحكام الإعدام المخفّفة إلى المؤبّد… فالخروج بقانون عفو خاص أُقرّ في المجلس النيابيّ بتسوية الله أعلم كيف انطلقت وكيف أُنجزت، على قاعدة محو الذاكرة الذي احترفه اللبنانيّون عبر تاريخهم غير المشرّف حروباً طائفيّة وأهليّة وقتلاً وتهجيراً وعمالة لأكثر من طرف أجنبيّ، وبخاصة لـ»الإسرائيليّ» الذي لسمير جعجع تاريخ مشهود معه تعاملاً وتنفيذاً لسياسات ومؤامرات.
هذا الترشّح ضربة «حكيم» إذن، لردّ الاعتبار، إنْ لم يكن للفوز، ولمحو الصورة الراسخة في ذاكرة اللبنانيّين، أو في الأقلّ تعديلها والتخفيف من سوداويّتها، بارتداء ثوب المرشّح لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، الأمر المفرح لحفنة الغوغاء من أنصاره، والكابوس لعارفي حقيقة الرجل وتاريخه ونزعته «الميغالومانيّة» التي اشتهر بها يوم حكم «المناطق الشرقيّة» من الكارنتينا إلى المدفون بـ»القوّات» والخوّات، قائداً «ملهماً» يضاهي نابوليون إنْ لم يفقه عظمةً وأهميّة مَنْ ينسى ذاك المشهد العبثيّ يوم تنصيبه بالسيف على الأكتاف ضبّاطاً «قوّاتيّين»! أليس مشهداً «نابوليونيّاً» بامتياز؟! . «أمراء» الحرب جميعهم «ميغالومانيّون» أو مصابون بجنون العظمة. لدينا أكثر من نابوليون، من مختلف الملل والاتجاهات!
إذن، يدرك سمير جعجع تماماً أنّه يخوض سباقاً خاسراً سياسيّاً ورابحاً شخصيّاً ومعنويّاً، فليس أفضل من حمل صفة «مرشّح لرئاسة الجمهوريّة» لإزالة تاريخ أسود ملطّخ بالدم. بيد أنّه لا يعلم أنّ تقديراته خائبة هذه المرّة أيضاً، فبمجرّد انتهاء العرض الرئاسيّ الهزليّ، ولو بعد أشهر، سوف تزول صورة المرشّح المفتعلة وتعود الصورة القديمة إلى سابق عهدها ورسوخها في الأذهان والذاكرة، الصورة الملطّخة التي لم يفلح عطّار الزمن العبثيّ في تبديل شكلها ورائحتها فبقيت على حقيقتها.
لاكتمال المشهد الهزليّ، الأميركيّ ـ السعوديّ إعداداً وإخراجاً، خرجت علينا جماعة «14 الشهر» بمبايعة مضحكة للحصان الخاسر، وعلى مألوفها، كان الأكثر توتّراً وسعوراً مروان حمادة وأحمد فتفت، اللذان لا يفوّتان فرصة تطرّف وتصعيد وجنون إلاّ ينقضّان عليها ويحتلاّن مقدّم المشهد والصورة… و»على شكلو شكشكلو…».
في الجانب الآخر في افتتاحيّة العرض الانتخابيّ الرئاسيّ، مشهد تبنّي وليد جنبلاط «الوسطيّ الحواريّ المعتدل» هنري الحلو، الذي استعاد تلفزيون «الجديد»، مشكوراً، إثر إعلان ترشيحه مواقف له بالصوت والصورة تؤكد انحيازه إلى «14 الشهر» ومعاداته الواضحة والعلنيّة للمقاومة ساخراً من «7 أيّار المجيد» بحسب خطابه الآذاريّ الموتور آنذاك، فكيف يكون «رئيس حوار ووفاق وانفتاح على الجميع» مَنْ يبدو شديد التوتّر والمغالاة لدى تناوله فئة كبيرة جداً من اللبنانيين، أي المقاومة وجمهورها الهادر؟! وعلى أيّ أساس يسوّقه جنبلاط كمرشّح توافق ووسطيّة وحوار وانفتاح فيما انحيازه جليّ ومواقفه كاملة الانحياز مسجّلة وموثّقة؟!
الأرجح أنّ هنري الحلو أُعِدّ، على يد جنبلاط المرشِّح والمسوِّق نفسه، للحرق كورقة تُرمى في الجولة الأولى الافتتاحية، وتفادياً أيضاً للإحراج الذي خلقه فريق «14» للحليف الأقوى والمدلّل وليد جنبلاط بتبنّيه سمير جعجع مرشّحاً، ما يشكّل كابوساً للزعيم الدرزيّ الذي خاض مع حليف الأمر الواقع، وسعد الجامع، أشرس المعارك في الجبل لردّه على أعقابه، فكيف يصفح وكيف ينسى وكيف يتبنّى مثل هذا الترشيح ـ الكابوس؟!
سوف تشهد المرحلة المقبلة، بدءاً من نهار أمس المشؤوم سمير جعجع مرشّحاً للرئاسة؟! حقّاً «هزُلَت» يا فؤاد كنعان ، جولات من العبث والعجائب على الطريقة اللبنانية. المهمّ أن نحافظ على هدوئنا وأعصابنا ونكتفي بالتفرّج على فصول العرض الهزليّ الطويل الذي نأمل أن تكون نهايته على قدر وإن يسير من الجدّية والواقعية، فتنتهي الأمور على سلام، وبأقلّ الخسائر، وبالحدّ الأدنى من اليأس والتيئيس للبنانيين.