العلمانية الغربية ومعضلة استيعاب المهاجرين المسلمين
فارس رياض الجيرودي
اعتادت المنظومة الغربية طوال فترة صعودها وتوسّعها الإمبريالي على حلّ مشاكلها عبر تصديرها إلى الخارج، ويحكي لنا التاريخ الغربي الحديث كيف تمّ تصدير الساخطين دينياً من البروتستانت والكاثوليك الأوروبيين إلى أميركا، ثمّ كيف تمّ التخلص من المجرمين عبر تهجيرهم إلى أستراليا، كما كانت الصهيونية هي الحلّ الغربي للمشكلة التي سُمّيت في القرن التاسع عشر بالمسألة اليهودية، حيث عبّرت الفكرة الصهيونية في العمق عن عجز العلمانية الغربية عن استيعاب جموع اليهود المهاجرين من شرق أوروبا. فعلى عكس الصورة الوردية الساذجة التي يتبناها الكثير من المثقفين العرب عن علمانية الغرب باعتبار أنظمة حكمها مساوية بين البشر وتحفظ لهم حقوقهم الإنسانية بلا تمييز يقوم على عرق أو دين أو معتقد، يظهر التدقيق في تاريخ أوروبا أنّ علمانية الغرب لم تكن أكثر من عقد اجتماعي للتعايش بين الأديان والإثنيات المكونة لكلّ دولة من الدول الأوروبية على حدة، و ذلك بعد عقود من الحروب الدينية الشرسة. لذلك لم يكن ذلك العقد الاجتماعي قادراً على منح الحقوق نفسها للشعوب في المستعمرات خارج أوروبا، كما أنه لم يمكِّن المجتمعات الغربية حتى من استيعاب اليهود الأوروبيين، فكانت الصهيونية المنفذ الذي أوجده الغرب لحلّ المسألة عبر تصدير فائض اليهود إلى فلسطين ليشكلوا قاعدة عسكرية غربية متقدمة في المشرق العربي.
لكي تقبل باليهود كمواطنين أوروبيين مساوين لغيرهم، كانت علمانية الغرب بمختلف أنساقها، في حاجة إلى حدث ضخم كالحرب العالمية الثانية بما تضمنته من مآس وجرائم غير مسبوقة في وحشيتها ارتكبها الإنسان الأوروبي في حق أوروبي آخر مثله، فجرى بعد ذلك اختزال تلك الجرائم في العقل الجمعي الغربي في حدث محاولة إبادة اليهود الأوروبيين من قبل النازيين، ليظهر مفهوم «هولوكوست» في الحضارة الغربية كمقدس يحظر الاقتراب منه وتُقمع من أجله حقوق ما يسمى بحرية التعبير.
لكنّ التحدي الأكبر للعلمانية الغربية نشأ مع تدفق جموع المهاجرين المسلمين إلى أوروبا وأميركا الذين فتحت أمامهم المنافذ بعد أن بدأت علامات الشيخوخة تظهر على المجتمعات الغربية، بدءاً من سبعينات القرن الماضي. لقد ضخ هؤلاء دماء جديدة في شرايين المجتمعات الغربية، ومنحوها فرصة لتجديد شبابها، وخصوصاً مسلمو أميركا الذين يتمتع معظمهم بمستويات تعليمية عالية، وينتمون بنسبة كبيرة إلى فئة فوق المتوسطة في المجتمع الأميركي، ورغم ذلك ظلت المجتمعات الغربية في مجملها عاجزة عن هضم هؤلاء و دمجهم، عدا من يتخلى منهم نهائياً عن جذوره الحضارية، فلا يكون المسلم جيداً ومتحضراً ومتحرراً، وفقاً للمفهوم الغربي، إن لم يقبل بإسلام يتوافق مع السياسات الغربية ولم يخدم في الجيوش الغربية التي تخوض معظمها حروباً تفتقر إلى أبسط متطلبات العدل في أكثر من بلد مسلم حول العالم، وعلى الأقلّ يجب أن يكون مؤيداً لتلك الحروب.
من جهة أخرى، أدت العلاقات الاقتصادية والصفقات المالية المشبوهة مع مشيخات الخليج الوهابية، وعلى رأسهم السعوديون إلى تلزيم المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب إلى دعاة وهابيين، فنتج عن ذلك انتشار نسخة الوهابي المتطرف بقوة في أوساط المهاجرين المسلمين، أضف إلى ذلك التأثيرات التي أحدثها القرار المخابراتي الغربي بتسهيل منح حقّ اللجوء الإنساني للمعارضين الإسلاميين الهاربين من البلدان العربية بهدف استخدامهم فيما بعد كورقة ضغط ضدّ حكومات تلك البلدان، وقد تحول هؤلاء في كثير من الأحيان إلى قيادات لمسلمي أوروبا وأميركا الذين تنتمي النسبة الأكبر منهم إلى الجيل الثالث ممن لم يتعرفوا إلى الإسلام في بلدانهم الأصلية، بل تعرفوا إليه من خلال أئمة المساجد الوهّابيين وعن طريق أعضاء الجماعات الإسلامية الهاربين من العالم العربي.
و مع ازدياد عدد المسلمين في أوروبا و تماسكهم الإثني حيث ينتمي معظمهم إلى بلدان المغرب العربي في كلّ من فرنسا و بلجيكا وهولندا، ومعظمهم ذوو أصول تركية في ألمانيا أصبح هؤلاء يشكلون تجمعات منعزلة في ضواحي المدن الأوروبية، وبدلاً من بذل جهود لاستيعابهم نشأت ضدهم حالة يمينية أوروبية عنصرية معادية للإسلام، تبدّت مظاهرها في ازدياد الاقتراع للأحزاب اليمينية المتطرفة في الدول الأوربية، وفي ظهور وسائل إعلام تتعمد تحقير المسلمين وإهانة رموزهم، حيث نشرت صحيفة دانماركية رسوماً مسيئة لنبيهم وتلتها حملة منسقة في عدد من الصحف الأوروبية أعادت نشر الرسوم ذاتها، وفي البيان التأسيسي لصحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية التي وقع الاعتداء الإرهابي مؤخراً على محرّريها، تبنت الصحيفة محاربة ما أسمته الشمولية الإسلامية في أولوية أهدافها.
لقد ساعدت ظروف التمييز العنصري ضدّ المهاجرين المسلمين وانتشار الدعاة الوهابيين بينهم على نشوء جيل، يحمل قسم كبير منه ميولاً متطرفة، كردّ فعل على النظرة الدونية التي يعانون منها في مجتمعاتهم، لذلك بدت الحرب السورية في أحد أوجهها فرصة ملائمة للتخلص من فائض المسلمين ممن لم يقبلوا بالتكيف مع المفهوم الغربي للمسلم الجيد، و هكذا ظنّ الغرب أنّ الفرصة سانحة لإعادة ممارسة لازمة تصدير مشاكله إلى الخارج، وانطلاقاً من أوهام التمركز حول الذات المتفوقة والقادرة على تدجين الآخر والسيطرة عليه لاستخدامه، توهَّمت دوائر صنع القرار في الغرب إمكانية التحكم بظروف التجربة السورية، وتفادي تكرار مأساة الأفغان العرب التي انفجرت في الحادي عشر من أيلول فوق واشنطن و نيويورك وفي محطات الميترو في لندن ومدريد، وكانت الحسابات قائمة في البداية على توقع سرعة انهيار الدولة والجيش السوريين، وذلك بناء على معلومات قدمتها الأنظمة الخليجية، ثم جرى الانتقال بعد سقوط الرهان الأول إلى خيار إتاحة الفرصة لـ«داعش» ليقتطع جزءاً من الجغرافيا السورية والعراقية ويقيم كياناً عنصرياً متطرفاً شبيهاً بإسرائيل، يجذب الإرهابيين ويمنعهم من التفكير بالعودة إلى الغرب. لكنّ حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، وما كان ممكناً في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين لم يعد صالحاً في عصر أصبحت العولمة التكنولوجية توفر فيه القنوات اللازمة لنقل الأفكار والمشاعر والتقليعات، بما فيها صرعات القتل وقطع الرؤوس، فلم يعد لزاماً أن تضع الحرب في سورية والعراق أوزارها حتى تعود جموع الإرهابيين إلى الغرب، ففي ظلّ بيئة حاضنة للإرهاب في أوروبا وفرها التمييز العنصري الغربي ضدّ المسلمين، كان طبيعياً أن يكون الردّ من قبل بعض المتطرفين الإسلاميين المعبأين في فرنسا على استفزاز صحيفة «شارلي إيبدو» للمسلمين، صورة عمّا يقوم به «داعش» من جرائم دموية متلفزة في كلّ من سورية والعراق ولبنان، وهكذا اصطدم الغرب بالحقيقة التي طالما روّج لها ثم تناساها في الحالة السورية ليفاجأ بها في باريس، ألا وهي حقيقة تحول العالم إلى قرية صغيرة تسهل انتقال الإرهاب الذي توفر له الدعم في بقعة منها إلى بقية أرجائها.
كاتب سوري