سورية: معركة الحسم على طريق تحرير الدين والعقل
فارس رياض الجيرودي
دماء المقاومين تنير طريق الأمة نحو النهوض والتحرّر، هكذا فعلت بالأمس دماء عزالدين القسّام وعمر المختار وعباس الموسوي وعبد العزيز الرنتيسي وأحمد ياسين، وهذا ما تفعله اليوم دماء قادة المقاومة الذين سقطوا على أرض الجولان. فهذه الدماء لم تثبت ما تمّ إثباته مراراً وتكراراً عن عدالة المعركة التي يخوضها كلّ من الجيش العربي السوري وحزب الله في سورية فحسب، بل برهنت أنّ الحرب السورية الحالية هي المواجهة الحاسمة للقوى التي تحمل لواء تحرير الأمة مع التحالف الذي أعاق نهوضها طويلاً، وظلّ مستتراً لعقود طويلة قبل أن يسقط آخر قناع يختفي وجهه القبيح خلفه في الجولان، إنه تحالف «إسرائيل» الموضوعي مع قوى التخلف الديني والعمالة للغرب في الأمة، والتي تمثلها بوضوح الوهّابية السياسية.
بعد ما حدث في القنيطرة، لم يعد في استطاعة المطبلين من المرتزقة على موائد شيوخ النفط والدولار، المخادعين لشعوبهم من النخب الدينية والثقافية والسياسية العربية أن يختفوا وراء شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان أو وراء الشعارات الطائفية، وهم يطلقون سهام كتاباتهم وخطبهم الخائبة على الجيش السوري والمقاومة اللبنانية، فيما يخوض الطرفان معركتهما في سورية لصالح الأمة كلها ضدّ قوى الإرهاب المتحالفة مع «إسرائيل». فها هي دماء الشهداء تشهد على «جبهة النصرة» التي سبق ودافع عنها وبرّر لها منظرو الثورة «المعتدلون» مُدّعو الإسلام والعروبة معاذ الخطيب وجورج صبرا وحسن عبد العظيم ، ها هم مقاتلو «النصرة» وحليفها «الجيش الحر» يقاتلون بغطاء جوي «إسرائيلي» في الجولان، وبدعم لوجيستي من قبل جيش العدو، وها هي الوهّابية تلتقي مع الصهيونية في خندق واحد وعلى سرير واحد في مستشفيات «إسرائيل».
يعلِّمنا التاريخ أنّ الأمم لا تنجز إصلاحها الديني والفكري والثقافي في الغرف المغلقة، وكنتاج لمناظرات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والدين، بل إنّ الأفكار تكتسب مشروعيتها من نزولها إلى أرض الواقع ومن خلال تصادم معتنقيها في ساحات الوغى وعلى طول خطوط خنادق القتال. هكذا ترسَّخ الإسلام كثورة دينية وفكرية واجتماعية، وهكذا قامت حركة الإصلاح الديني في أوروبا. وإذا كانت أوروبا قد احتاجت إلى قرنين من الحروب الشرسة حتى أنجزت حركة الإصلاح فيها، تلك الحركة التي انطلقت من ألمانيا في مواجهة تغول الكنيسة الكاثوليكية وتألهها وتحولها إلى جاب للأموال باسم بيع صكوك الغفران، فإنّ أمتنا اليوم تشهد في سورية معركة حاسمة لتحرير دينها وعقلها من براثن العبث الذي مارسته النخب الدينية والإعلامية المتمولة بمال النفط الخليجي خلال العقود الأربعة الماضية التي تلت توقيع معاهدة «كامب ديفيد» وتفكيك المشروع الناصري، وبدء ما سمي بالحقبة السعودية في الثقافة والدين والسياسة في العالم العربي.
لقد حولت الوهّابية السياسية ديناً عظيماً كالإسلام، إلى أداة لخوض المعارك السياسية لصالح الغرب في مواجهة الشيوعية حيناً، وفي مواجهة إيران الثورة حيناً أخر، ثم لتدمير المجتمعات العربية في كلّ من العراق وليبيا وسورية أخيراً، وهي، في كلّ ما سبق، لم تختلف عن الصهيونية كأدة فكرية لتزييف الأديان وحرفها عن قضيتها الأخلاقية الأساسية، وتحويلها إلى أداة لخدمة الإمبريالية الغربية، وإلى طلقة تستخدمها في مواجهة أعدائها خلال معاركها الهادفة إلى إدامة التحكم الغربي في العالم وإشباع نهمه اللاعقلاني واللامحدود إلى نهب ثرواته.
لقد استخدم الغرب الصهيونية لإعادة قولبة اليهودية في العالم والمسيحية في أميركا، بما يناسب الاستراتيجيات الاستعمارية، كما استخدم الوهّابية من أجل صهينة الإسلام، أي من أجل تحويله إلى مجموعة من الأساطير التي تبيح القتل الأعمى لصالح خدمة الاستراتيجيات الكولونيالية، لذلك فإنّ معركة الجيش السوري وحزب الله في سورية اليوم ليست معركة تحرّر ونهوض العرب والمسلمين فحسب، بل إنها معركة حاسمة على طريق تحرير الأديان المشرقية من العبث الإمبريالي الغربي. هي معركة تحرير الدين والعقل في مواجهة محاولة إسقاطهما.