مار مارون سوريّ أصيل

فهد الباشا

ملامح الهويّة التي تميّز الشعوب والجماعات، والتي تنقل، في التاريخ، صورة جوهرها، لا يتمّ التعبير عنها واضحةً، في مراحل استرخاء الشعوب والجماعات، بل تكون أوضح وأكثر دلالة، في التحدّيات الكبرى وعند المنعطفات التاريخية والمفارق والمطبّات المفاجئة، حيث، هناك، يجري امتحانها الفعلي، الذي قد تثبت فيه حقيقتها التي تؤهّلها للبقاء الحر، أو هي تمضي إلى ذمة التاريخ ذكراً باهتاً، أو نسياً منسيّاً، وغالباً ما يتجسّد ذلك في أشخاص يولدون من رحم الأحداث، ويُِشار إليهم بصفتهم شخصياتٍ تاريخية، تؤسّس أو تقود حركاتٍ، تحوّل الزمن البارد تاريخاً نابضاً، وتتحوّل هي، في مجراه، عناوين لحقائق، أو لأباطيل، تسم أو تصم مراحله. من هنا، فُصِّل التاريخ عهوداً اتّسمت بأسماء جماعة أو أشخاص في جماعات، منهم من يستمرّون مرحلة ثم يرحلون وكأنهم لا جاؤوا ولا ذهبوا، ومنهم من يستمرون مراحل أبعد، لكنها لا تمنع أن يطويهم، بعدها، النسيان. ومنهم الباقون بما أبقوا كأنهم متعاقدون مع الخلود. فمن أيّ هؤلاء الناس يكون مار مارون المطلّة ذكراه، بعد أيام؟

لا يذكر التاريخ الكثير عنه، في زمنه، لكنه يشير إلى إرثٍ عظيم، وإلى ورثةٍ ما كانوا، دائماً، على قدر واحدٍ من الأمانة في الكشف عن مكتنزات هذا الإرث والمحافظة عليه سليماً معافى من اختلاطات ثقافات هجينة، أساءت إليه، لكنها، رغم تشوّه بعضها، وخبث الآخر، لم تستطع أن تخفي علامات في الهوية فارقةً، يصحّ الانطلاق منها لترميم ما تهدّل وما تهدّم، ويصحّ اليوم، أكثر تذكير المعنيين بها، لتأمن بهم الطريق إليها، ولا سيما أننا في مواجهة زمنٍ لم تبق فيه حقيقة مجتمعية على حالها من الصفاء والنقاء. ولم يبق التاريخ ناطقاً صادقاً. على الدوام، بالحقائق والوثائق، إذ كثيراً ما انحرف به عن خط سيره الطبيعي قادة سوء، تسللوا إليه، في غفلة من غفلات الشعوب، وساروا به إلى حيث ضاعت هوية أو إمّحت منها حروف، وباخت كلمات وألوان، وصارت غير صالحة للتعريف بحقيقة صاحبها كاملة، بحيث يصبح لزاماً عليه، كي يستعيدها واضحة بعلاماتها الفارقة، أن يبحث في طيات التاريخ، عن وثائق وبراهين، دونها المشقات الجسام.

ولا سيما لجهة ما يتطلبه من جهود تصويب تسميات سمّمت، بالتشويه والأضاليل، أجيالاً على مدى آجال طويلة، كمثل ما حدث للكثير من تراثنا على يد إيليانو الموفد البابوي إلينا مطلع القرن السادس عشر، حيث جرى حرق كثير من مخطوطاتنا في لحفد وبشري، وطباعة مخطوطات محرّفة لا تنسجم مع ما ألفته نفوسنا، أو كمثل تسمية الهمجيات التي نشهد بالأصوليات الدينية، في حين أن لا نسب لها، لا إلى دين ولا إلى دنيا، نسبها إلى أفعالها البربرية…

وبعد، ماذا أبقى لنا التاريخ من مار مارون المحتفَل بذكراه بعد أيام؟

ستة عشر قرناً، وبضع من السنين تفصلنا عن زمن الراهب الأمين لعقيدته ولسورياه… ستة عشر قرناً اندثرت خلالها هويات، وانطوت أعلام، وبرزت هويات، ستة عشر قرناً كانت كفيلة بفعل تراكم الويلات، وتعرّضها لشتى أنواع الثقافات التجهيلية، كانت كفيلة أن تقضي على مدرسة مارون، على ما عمل وعلى ما علّم، لولا أنه أصالة سورية تعصى، بعمق جذورها، على محن الزمن، ولا تقوى عليها أبواب الجحيم. ستة عشر قرناً بادت خلالها جماعات وحضارات، وتحضّرت بوادٍ هل فعلاً تحضرت؟ ستة عشر قرناً والراهب السوري الذي أُبعِد لفترات، عن مضاربه في جبل نابو، ها هو يعود إلى هناك، بحلة جديدة، يقاوم، ظلم البيزنطيين الجدد… «نصرة» الشر و«دواعش» الظلام… ويدعو المنتسبين إليه في المذهب والدنيا والدين، من الذين غيّروا وبدّلوا في نصوص الصلوات، يدعوهم أن يعيدوا إليه، في ذكرى عيده، نص الطلبة التي ظلوا يرفعونها إليه حتى منتصف القرن الماضي، والتي تنطوي، في حقيقتها، على نصٍّ لنسخة طبق الأصل عن هويته، سواء لجهة ما جاء فيها من إشارة إلى عمله الإنقاذي من الطغيان البيزنطي، أو إلى تصدّيه للبدع والأضاليل «منقذاً من الطغيان والبطلان»، أو لجهة ما يُفصح عنه الباقي من لازمة الصلاة، وفيه حرفياً مما ذكره كتاب مطبوع بالحرف الكرشوني في مطبعة دير قزحيا سنة 1896:

«لك شرف مفرد كبدر الضيا

لك اسم يزهو كالثريا

لك اسم بالشرق مسميا

مار مارون يا فخر سوريا»

ومن قبل ومن بعد، ولئن علا هوية مارون بعض الغبار من عواصف التاريخ، أو تغبّشت فيها حروف، فيبقى لنا في التاريخ عينه غيرُ ضوء يقطع الشكّ باليقين… وكما تختصر هوية الفرد كلمات معدودات، أختصر مستعيراً من الأب بطرس ضو ضوءاً يطلع من كتابه «تاريخ الموارنة، الجزء الأول 1970» من الصفحة 323 حيث يرد: «منذ اهتداء الشعب السوري في الأرياف، بين أواخر القرن الرابع ومطلع الخامس، إلى المسيحية، وجرى هذا الاهتداء، بصورة رئيسية على يد مار مارون وتلاميذه، مذ ذاك، تحوّل مجرى الأمور من الاتجاه اليوناني إلى الاتجاه السوري الآرامي الوطني، أضف إلى ذلك الحماسة التي دبّت في الصدور، من جراء أنّ المسيح سوريّ من فلسطين».

أويشكّ، من بعدُ، المدققون بالثبوتيات على حواجز التاريخ ومفارقه بهوية هذا السوريّ الأصيل، الذي طالما توجه إليه الموارنة مصلّين مردّدين: مار مارون يا فخر سوريا…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى