6 شباط 1984 6 شباط 2006
في السادس من شباط عام 1984، كانت انتفاضة الشعب والجيش التي غيّرت وجه لبنان، وفتحت طريق المقاومة نحو الجنوب، وكسرت قيود السابع عشر من أيار، وفرضت توازنات الشراكة في السلطة. وكان لي تواضُعُ توثيق يوميات الانتفاضة وتحليل مقدّماتها واستقراء تداعياتها ونقاط قوّتها ونقاط ضعفها في كتاب «6 شباط الثورة التي لم تنته»، وشرّفني الرئيس نبيه بري يومذاك في ذكرى مرور سنة على الانتفاضة بتقديم الكتاب. وكتبت في خاتمة الكتاب أن الانتفاضة تفتقد شريكها المسيحيّ لتنجز مشروع التغيير. وبينما كُتب في السادس من شباط 2006 عقد الشراكة بين المقاومة وشريكها المسيحي الاستراتيجي الممثل بتيار العماد ميشال عون وتوقيع التفاهم مع السيد حسن نصر الله ، كانت النار المذهبية تتكفّل بتشقّق الصفّ الذي جمعه السادس من شباط بين الشيعة والسنّة والدروز. أعيد نشر بعض يوميات الانتفاضة كما وردت في الكتاب، ومقدّمة الرئيس نبيه بري مع مرور ثلاثين سنة على صدوره.
ناصر قنديل
تقديم الرئيس نبيه بري
ستقع على كتاب هو في الحقيقة وثيقة تاريخية، تنبض بأدقّ التفاصيل لمرحلة السادس من شباط وما سبقها من تمهيد.
أنت أمام أسطر أملاها فكر مؤرّخ وخطّتها يدٌ مقاتلة لم يشبعها النضال اليومي، فتمادت لتلصق بصماته في كلّ مكتبة ومنزل، وبالتالي مستقبل الوطن.
إن تسنّى لي أن أطّلع على الكثير الكثير مما كُتِب عن السادس من شباط، فكنت أرى أن معلوماتي أوفر وما لدي أغنى، حتى إذا ما قُدّمت إليّ هذه الوثيقة شعرت بالإفادة منها… واضطررت للمقارنة والتدقيق بين ما أعلم من ممارستي لما قبل والسادس من شباط، وما هو مدوّن. وأخذت أقرأ ذاتي والآخرين وذهلت لدقائق الأمور التي تتوافد أمامي وأحياناً للمرّة الأولى.
هذا الكتاب قد يصح الكتابة على غلافه:
«الجزء الأول»
«من نضال شعبنا في الجبل والضاحية وبيروت»
وصولاً إلى يوم خرج طير النورس من بين الرماد وذرّ الرماد كل الرماد قبل السادس من شباط…
فلنتذكر
البحر مليء بالمدمّرات
والجوّ يضجّ بالحاملات
والبرّ يعجّ بالجند والناقلات.
وأمام كل هذا شعب مستضعف إلّا من الإيمان.
وخرج طير النورس ليحلّق فوق المدمّرات والحاملات والناقلات ويذروها جميعاً.
ليفعل شيئاً جديداً في التاريخ. كيف حصل ذلك؟
الجواب في هذه الوثيقة… النتائج؟
من 17 أيار وصولاً إلى «كامب ديفيد»، عبر ممرٍ وحيد لا مناص منه هو المقاومة الوطنية في الجنوب والبقاع الغربي وراشيا قد يأتي بعد في أجزاء يحتاجها القارئ العربي… ولكنه حتماً مضطر للمرور بهذا الجزء الأول من تاريخنا الحديث والذي به نفتخر.
6 شباط
كيف حدث هذا؟
لبنان قبله، هو غير لبنان بعده.
فهو ليس مجرد تاريخ يفصل بين عهدين لبنانيين، بل قد يكون عهداً قائماً بذاته. فإذا كان ما قبله عهد الديكتاتورية، والوصاية الأميركية والصلح مع «إسرائيل»، وإذا كان ما بعده هو عهد التسوية والرحيل الأميركي والانكفاء «الإسرائيلي». فإن شباط هو عهد الانتصار الوطني على الديكتاتورية وحلف الأطلسي و«إسرائيل».
شباط يختصر هذه التحوّلات في أيامه الناقصة يوماً عن سواه من الشهور ويكون بذلك عهد الثورة.
كيف حدث هذا؟
هل كان مخطّطاً له أن يحدث؟
أم كان امتداداً طبيعياً لأحداث سبقته؟
أم هو خليط من الاثنين معاً؟!
… ذكرت وكالة «يونايتد برس» مساء هذا اليوم أن ضابطاً كبيراً في المارينز سأل أحد الصحافيين في مطار بيروت: «من يسيطر على البلاد هذه الليلة؟ هل أمل هي المسيطرة؟ وهل ما زال الجميّل رئيساً؟».
لكن كيف حدث هذا؟…
استفاقت بيروت على أنين ضاحيتها الجريحة… وعلى تحذيرات بعض الضباط الشرفاء، من لعبة يجري الإعداد لها على يد قيادة الجيش لاستبدال الوحدات النظيفة في منطقة الصنائع وبرج المر، بكتيبتَي دبابات من اللواء الثامن…
وبقي الخبر إشاعة، وأرسل رئيس حركة أمل مسؤولَ الأمن المركزي في الحركة مصطفى الديراني ليبلغ العقيد لطفي جابر إنذاراً أخيراً بفتح أبواب الثكنة أمام الملتحقين، وإذاعة بيان يتبنّى فيه مضمون المؤتمر الصحافي الذي عقده بري قبل يومين…
وكان الديراني مزوّداً بتعليمات واضحة، «إما أن يستجيب العقيد أو يوضع في صندوق السيارة ويشحن إلى ثكنة حمانا حيث يُسجن». ويطلب جابر أن يعطى فرصة، ويغادر الثكنة إلى بيته، على أمل إعطاء الجواب النهائي في المساء، ويرافقه النقيب عبد الرحمن خرمى، وتسير موجة الرفض في المواقع العسكرية، والجنود في الشوارع يتطلعون إلى الناس، والناس يسألون آه لو ينتفضون معنا. وكان هذا هو شعور الجنود تجاه الشعب الذي تحوّل بعد ساعات إلى طوفان مسلّح يملأ شوارع العاصمة.
وكانت تدنو تلك اللحظة التي يمتزج فيها الشارع بالثكنات حتى تبدأ قوة مقدّسة كبخار الأرواح صاعدة من امتزاج هذين التيارين، وتكنس البناء القديم أولاً ثم جدرانه، إلّا أنّ قواعده كانت لا تزال باقية حتى المساء…
وكان الجنود الهاربون يسألون: ماذا ينبغي أن نفعل؟ وكان الشباب يقودونهم بروتين رتيبٍ إلى ثكنة هنري شهاب ويجرّدونهم من سلاحهم وعتادهم إذا قرّروا الذهاب إلى بيوتهم، وكان بعض الشباب يسأل الجنود: هل تريدون الانضمام للانتفاضة؟…
وها هي العاشرة والنصف، أمسك المدافعون عن العاصمة مداخلها، ودوى انفجار قذيفة، وتتالت أصوات الانفجارات وكانت تسمع القذائف المتبادلة وصداها… وتقابل مدفع الدبابة وقاذف الـ«آر بي جي»، وكأن الماضي يقبّل المستقبل، والقصف مشتعل بينهما… والواضح تماماً أن الرمي كان يدور بين الماضي والمستقبل…
وفي الحادية عشرة، كان حوالى عشرين مقاتلاً يشكّلون القوة التي أنيطت بها مهمة الدفاع عن مدخل بيروت الرئيس من جهة بوابة المتحف، قد أخذوا مواقعهم على أطراف مستشفى البربير، عندما كان رتل عسكري يتقدم باتجاه أوتوستراد المزرعة عابراً جسر فؤاد الأول… وتلقفها المقاتلون بقذائفهم، وكانوا بمعظمهم من مرافقي رئيس حركة أمل والنائب زاهر الخطيب كما يقول «تقو» وهو أحد مرافقي بري الذي شارك في أكثر من معركة على محاور الشياح.
ويضيف زميلاه «أبو خشبة» و«زيتوني»، إن «أبا محمود» أحد مقاتلي رابطة الشغيلة أظهر بسالة نادرة في معركة المواجهة مع الدبابات التي دارت حوالى الثانية والنصف ظهراً، إذ تقاسم هو وشباب الحركة وجبة الدبابات التي التهمتها النيران، وكانت الحصيلة تدمير ناقلة جند، ودبابتين «م ـ 48» تفجّرت إحداها منذ الظهر، وبقيت أصوات الانفجارات تتصاعد منها حتى السادسة والنصف مساءً، حيث وجدت في داخلها جثة سائقها الجندي حنا أسعد.
ويقول جوي، وهو أحد مرافقي رئيس حركة أمل، وقد استشهد بعد أشهر، إن المعركة الضارية استمرّت أقل من ست ساعات «كنّا خلالها وحدنا أقل من عشرين مقاتلاً، وكادت تنفذ ذخيرتنا لولا ملاقاتنا بخمسة آخرين من الشباب جاؤونا مزوّدين بالذخائر على أنواعها».
ويؤكد الجميع أن معركة بوابة المتحف حُسمت في الثالثة ظهراً، فيما غرقت المدينة بدماء أبنائها من جرّاء القصف الوحشي بعدما كان الطوفان المسلّح قد غطّى شوارعها بمزيج من الشعب والجنود.
وتكسّرت ثلاث محاولات اقتحام على المداخل، وتبخّرت دعوة حظر التجول التي أعلنتها قيادة الجيش بدءاً من الواحدة ظهراً، وحُرّرت طريق المطار الدولي ومستديرة شاتيلا، وعاد الشريان الذي يربط الضاحية بالعاصمة حرّاً من أيّ اختناقات أو معاصم.
وفي الساعة السادسة، كان ضباط قوى الأمن الداخلي مجتمعين في منزل المحامي بري وفي مقدّمهم العقيد عصام أبو زكي، والمقدّم عدنان غطمة، والرائد علي مكي والرائد فايز رحال، والرائد علي بحسون، وكان البحث جارياً في كيفية تسليم قوى الأمن، مسؤولية أمن العاصمة.
وكان المهم هو كيفية الحفاظ على الانتفاضة…
«إن الحفاظ على النصر أصعب وأعقد من تحقيق النصر نفسه».
كانت هذه هي القاعدة التي وضعها بري نصب عينيه، وأخذ يتوجّه للضباط والمسؤولين العسكريين الذين شاركوه الاجتماع فيقول: «إن بيروت تاج النضال الوطني، أما أمنياً فهي قميص وسخ، وتذكروا في بيروت سقط ياسر عرفات ولم ينجح الردع، وسقط أمين الجميل، ولا أريد أن أسقط».
ويخاطب أحد الحاضرين قائلاً: «أخشى ما أخشاه أن نقع في الخطأ المميت، فكلّ شيء يمكن إصلاحه، إلّا السقوط في فخّ الإساءة للناس، مهمّ جدّاً أن نعمل شيئاً»…
ويقرّر إصدار تعميم مذيّل بتوقيعه يوزّع على المقاتلين في هذا المساء ويجيء فيه:
ـ التنبيه الشديد إلى خطورة الممارسات الطائفية.
ـ احترام المواطنين ومعتقداتهم الدينية.
ـ وضع السلاح في تصرّف الشعب.
ـ التصدّي لكلّ اعتداء على منازل المواطنين.
ـ الحذر من العملاء والمأجورين.
ـ التصرّف بأخلاق وإنسانية مع الناس.
ويتوجّه بري إلى دار الفتوى، حيث يلتقي المفتي خالد ويبلغه وضع قوات حركة أمل في تصرفه، ويقول له: «أنا أتلقى أوامري منك الآن» ويعود، ويلتقي عدداً من مساعديه ومستشاريه، ويقرّر الدعوة إلى اجتماع سياسيّ في أول الليل لتحصين الانتفاضة، ويتقرّر دعوة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني كريم مروّة وأمين عام رابطة الشغيلة النائب زاهر الخطيب، وعضو تجمّع العلماء المسلمين الشيخ ماهر حمود، وعضو تجمّع اللجان والروابط الشعبية معن بشور، ومندوب رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي فؤاد صعب.
ويُعقد الاجتماع في السابعة، ويتحدّث بري في المجتمعين بلغةِ القابض على الجمر، ويقول:
«ما أعظم انتصارنا إن حفظناه، وما أفظع هزيمتنا إذا وقعت لا سمح الله، لم يعد هناك ما يهزمنا، إلّا سوء التدبير، المهم أن نصون انتصارنا».
ويتابع: «أما عن الجانب السياسي، فالواضح أنه لم يعد من قاسم مشترك بيننا وبين الحكم، ولم أعد أرى من إمكانية لحل سياسي بغير استقالة رئيس الجمهورية».
ويضيف: «هذا الاجتماع يجب أن يكون يومياً ويأخذ مهماته في القضايا السياسية والاجتماعية والأمنية».
وبعد حوالى نصف ساعة، وردّاً على أحد السائلين يقول: «إن أخطر ما نواجهه اليوم كيفية حماية المسيحيين ومنع أيّ تعدّيات على أمنهم، خصوصاً أنني سمعت بتفجير عبوة في كنيسة المزرعة، وهذه حادثة بشعة وخطِرة لن أسمح بتكرارها، وليعلم الجميع أنه سيكون لنا موقف سياسي وعملي تجاه كل من تتكشف علاقته بهذه الأعمال، وإن الحركة المؤمنة بالديمقراطية في ما بين سائر أطراف العمل الوطني، لن تتورّع عن التعامل بحزم مع كل من يعبث بأمن بيروت الوطنية، التي أصبحت صمّام أمان المعركة الوطنية كلها».
7 شباط
كانت هذه الفوضى الجماهيرية التي أسماها البعض، فوضى احتلالات البيوت، أشبه بجمهرة لزجة، وكانت توحي أنه يكفي أن يستلّ أحد سيفه ويتقدّم، حتى يتفرق هذا الجمع، إلّا أنّ هذه الجموع التي لم تكن قد انتظمت حول أهداف وبرامج واضحة ومحدّدة، كانت مشبعة بحقد عنيف ضدّ الذين لا تريدهم، وكان مجرد التماع نصل السيف المذكور كافياً لترتدي بيروت شباناً مسلحين على أطرافها كما يزيّن الكشكش ثوب العجائز.
وكانت نتيجة الانقضاض بهذا السيف على الناس كنتيجة الانقضاض بالسيف داخل معجنة…
لذلك، كان يكفي لبيروت انتصارها، كي يخاف من نارها الرئيس الجميل ويلحقه الرئيس الأميركي بقرار سحب المارينز إلى البحر، ويقف الاثنان في لحظة انتظار، فيما بيروت تلملم جراحها، وتمسح الدخان عن وجهها وتنتظر نتيجة حسابات الرئيسين حرباً كانت أم سلاماً… وكان تقليديو بيروت الغربية يشاركهم كُثُرٌ من رجال الدين والزعامات الروحية يسيرون على رؤوس أصابعهم حول مخزن حطب الثورة، وكان بعضهم يسعل بسبب الدخان، ويمتعض مقحقحاً، إلّا أنهم كانوا جميعاً يردّدون، سنحاول عمل اللحم المشوي عندما ينتهي اشتعال الحطب…
وكان بعض هؤلاء مشاركاً في أطر المعارضة، وبعضهم الآخر يلبس لبوس الطهارة، متحدثاً بعفّة متناهية، حول ذمّ الحرب وأساليبها وقذارة المشاركين فيها…
إلّا أن الكلاب كانت تعوي، والقافلة تسير…
وكانت بيروت تسجّل انتصارها، والوضع التمويني يزداد سوءاً، فيما الوضع الأمني يسجّل بعض الخدوش في وجه العاصمة المنتفضة ويأتي بيان القوى الوطنية مساء هذا اليوم، ليحذّر من خطورة الوضع الأمني ويهدّد بالضرب بيدٍ من حديد على كل من تسوّل له نفسه العبث بأمن العاصمة.
8 شباط
«أقتلوا كلّ مسلّح يرفض الانصياع للأوامر».
بهذه الكلمات ختم بري كلمته مع مسؤولي الأمن والعسكر في حركة أمل والقوى الوطنية الذين جاؤوا يتلقون التعليمات الأخيرة قبيل انطلاق الدوريات المشتركة لقمع التجاوزات.
وبهذه الكلمات ردّد القادة العسكريون أمام عناصرهم في الدورية الأمنية المشتركة، «أمر اليوم»، فالخطر على الانتفاضة بات مصدره هذه الطفيليات التي يمكن أن تأكلها.
ويعيد بري، ويكرّر: «إنني أطلب للمرة الأخيرة من جميع المسلحين من دون استثناء مغادرة شوارع بيروت الغربية فوراً وتحت طائلة المسؤولية والمعاقبة التنظيمية والحزبية، وأطلب إليهم التوجّه إلى خطوط التماس في بيروت الغربية والضاحية الجنوبية».
وكانت أخبار الصباح قد حملت جملة من الحوادث أكّدت فشل الإجراءات المتخذة في اجتماعات الأمس، والتي وافق عليها الجميع بما في ذلك الشيخ عبد الحفيظ قاسم…
أبرز حوادث الصباح، كانت كتابة شعارات إسلامية على جدران كنيسة الروم في المصيطبة، وانتشار مسلّحين من جماعة الشيخ عبد الحفيظ قاسم في هذه المنطقة وعلى باب الكنيسة بالذات، ورافق ذلك خلع أبواب بعض بيوت المسيحيين في المنطقة، وتهديد بعض أصحاب المحلّات التجارية منهم بضرورة الرحيل…