بين الإبراهيمي ودي ميستورا: حلّ على الطريقة اللبنانية… أو العراقية؟
ناصر قنديل
– في اللقاءات التي جمعته مع وزراء الخارجية في دول الاتحاد الأوروبي، كان المبعوث الدولي للحلّ السياسي في سورية ستيفان دي ميستورا متحفظاً، وهو يتحدث عن أفكاره ومقترحاته للحلّ، متمسكاً بصيغته لتجميد النزاع في حلب كمقدمة ممكنة لتسوية سياسية، وانعطف نحو حوارات موسكو ليراها بداية جيدة على هذا الطريق، ملمّحاً إلى تحفظه على ما وصفه باعتراضات للحكومة السورية على مشاركة البعض، وتابع التلميح بصيغة الانتقاد الضمني لإصرار الدولة السورية على ربط مهمّته، بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لمكافحة الإرهاب وما تتضمّنه من التزام دول جوار سورية بوقف تهريب السلاح والمسلحين، لكنه أمام تساؤلات الوزراء الأوروبيين لربطه المبهم اضطر إلى إيضاح نقطتين، الأولى أنّ شراكة الرئيس السوري بشار الأسد في العملية السياسية ضرورة لا يمكن تجاهلها، وبقاءه رهن بالعملية السياسية، سواء في الشقّ الناتج من تفاهم أطرافها، أو في الشق الناتج من صناديق الاقتراع، الثانية أنّ الحلّ التشاركي لسورية يجب أن يستلهم برأيه النموذج اللبناني، مستدركاً، أنّ هذا أمر يعود إلى السوريين على طاولة الحوار.
– يوضح كلام دي ميستورا الصيغة التي تتحرك من خلالها واشنطن، وهو لا يتحدث من دون رضا واشنطن، بدليل ما ظهر من تطابق في الموقف من حوارات موسكو، بينه وبين وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والأمر عموماً في حالته لا يحتاج دليلاً، فتعيين مبعوث أممي لمهمة بحجم حساسية وخطورة سورية يستحيل أن يتمّ من دون دراسة وعناية عاليتين من واشنطن، التي قادت الحرب لأربع سنوات على سورية، وربطت مصير الكثير من حساباتها بمستقبل هذه الحرب، وارتبط مصير ووزن معظم حلفائها في المنطقة بهذه الحرب، وترتب على هذه الحرب بغرض الفوز بها جلب الإرهاب من كلّ أنحاء الدنيا، ليصير اليوم المشكلة الرئيسية للمنطقة والعالم، وما يفرضه وجود الإرهاب وتجذره من أولوية، صارت تدقّ باب المنطقة لتسريع التفاهمات والتسويات وفي مقدّمها، الحلّ السياسي في سورية.
– الواقعية في السعي الأميركي إلى الحلّ السياسي يكشفها، التسليم بدور الرئيس الأسد الذي صار من ثوابت الحلّ السياسي، وفقاً لما يعبّر عنه كلام دي ميستورا والكلام الأميركي المباشر، على رغم سرعة نسفه بكلام خشبي عن اللاشرعية، والذي يُقال عادة لاسترضاء أو إرضاء حلفاء ما زالوا يعيشون أوهاماً مضى زمانها، مثله مثل الحديث عن خطط طويلة المدى لتسليح «معارضة معتدلة»، قال الرئيس الأميركي باراك أوباما أنّ التفكير في وجودها مجرّد وهم أو «فانتازيا».
– مقابل هذه الواقعية، من الواضح أنّ واشنطن عبر دي ميستورا، وبالتفاوض مع موسكو وطهران، تريد تقديم واقعيتها كتنازل تطلب له ثمناً، والثمن هو كما يوحي كلام دي ميستورا، أن تزيل دمشق تحفظاتها، على ثلاثة أمور، الأول مشاركة بعض رموز المعارضة في الحوار وبالتالي في الحلّ السياسي، ومن الطبيعي أن من تتمسّك بمشاركتهم واشنطن ليسوا ملائكة، فهم ليسوا إلا أدواتها الذين تريد دمجهم ببنية الدولة السورية الجديدة، وممثلو حلفائها الذين لا تريد لهم أن يخرجوا من المولد بلا حمص، وتسعى إلى اقتطاع جزء من كعكة الحكم في سورية لهم، والثاني أن ترتضي الحكومة السورية التساهل في الحلول الأمنية بصورة تحفظ وجود مجموعات مسلحة تسيطر على أحياء ومناطق، كما يطرح دي ميستورا الحلّ المقترح لحلب، مع الاكتفاء بوقف القتال، وتعميم النموذج على مناطق أخرى، فنصير أمام مشهد آلاف المسلحين يتقاسمون مع الدولة حمل السلاح، ليصير على جدول أعمال الحلّ السياسي، قضية اسمها دمج الميليشيات بالجيش والقوى الأمنية، على الطريقة اللبنانية، التي أغفل دي ميستورا متقصّداً تفاصيل الاقتباس منها، ومنها يفتح باب، اسمه على الطريقة اللبنانية، إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، وتضع واشنطن أصبعها بواسطة عملائها المسلحين برتبهم المختلفة داخل الجيش والأجهزة الأمنية، أما النقطة الثالثة، فهي احتجاج دي ميستورا، يعني واشنطن، على إصرار الربط السوري، بين مشروع تجميد القتال وتنفيذ القرار الأممي 2170 والقرار 2178 الخاصّين بإقفال الحدود أمام السلاح والمسلحين، وهنا القصد حدود تركيا والأردن والجولان المحتلّ، ما سيعني إبقاء خطوط الإمداد بالرجال والسلاح إلى المجموعات المسلحة، ومنحها رعايات إقليمية متعدّدة، هي السعودية عبر الأردن وتركيا و«إسرائيل»، ليكون لكلّ منها جيشها الذي يلتزم وقف النار، بانتظار احتلال مكانة مقرّرة في الجيش السوري والأجهزة الأمنية المزمع بناؤها بحصيلة الحلّ السياسي، وفقاً لرؤية واشنطن التي يضمرها دي ميستورا، فيتكامل زجّ معارضين يمثلون الخارج الأميركي والفرنسي والتركي والسعودي و«الإسرائيلي»، في التركيبة السياسية للدولة، بالتوازي مع التغلغل المرتقب في الجيش والأجهزة الأمنية السورية، لمن يحملون السلاح ويدينون بالولاء لذات مرجعيات هذا الخارج.
– هذا التصوّر الأميركي لحلّ سياسي يقايض الاعتراف والقبول بدور الرئيس الأسد في الحلّ السياسي، بالتطلع إلى تفخيخ الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية في ما سينتج عن الحلّ السياسي، وبالتالي السعي إلى إزالة الممانعة السورية التي تحول دون هذا التفخيخ، يحتاج ليكتمل إلى الإجابة عن سؤال، كيف يضمن شروط الاستمرارية، إذا ربطت التعديلات البنيوية في هيكلية مؤسسات الدولة السورية، بنهاية المرحلة الانتقالية التي لن تدوم لأكثر من موعد الانتخابات النيابية بعد عام، ما يضع كلّ شيء رهينة لصناديق الاقتراع التي تعرف واشنطن أنّ جماعاتها وجماعات حلفائها، لا يملكون فرصة الحصول عبرها، ما يخوّلهم التأثير في القرار السيادي للدولة السورية، مهما كانت معايير الانتخابات النيابية صارمة وشفافة، ومطابقة لأشدّ وأدقّ المعايير الدولية، لذلك تتفتق عبقرية واشنطن عن مفهوم للحلّ السياسي يستوحي النموذج اللبناني، وتخجل واشنطن ويخجل دي ميستورا ومعهما الأخضر الإبراهيمي من القول النموذج العراقي، أيّ تقاسم الرئاسات على أساس طائفي، وما وصفه دي ميستورا بالفسيفساء الرائعة الجمال في لبنان، وهو يعلم أنّ لبنان على فوهة بركان دائم، ويخشى ذكر العراق كي لا يتذكر المستمع الدم المهدور يومياً في شوارع العراق الغارق في الفتنة الأهلية بتداعيات هذه الصيغة الأميركية، التي هندسها الأخضر الإبراهيمي، كما هندسها للبنان، كما هندسها وعرضها علناً لسورية، وكما جاهر بها من قبل وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مؤتمر الدوحة في 30 حزيران 2013، لما عرف بـ«أصدقاء سورية» يوم دعا إلى استعادة التوازن العسكري بعد حرب القصيْر كشرط للعودة إلى الحوار السياسي، وقال إنّ الحلّ المثالي هو أن تتقبّل الأقلية بالتخلي عن الرئاسة للأغلبية الطائفية، وبعدما ماتت هذه الصيغة، قال الأميركي ومعه دي ميستورا فلتكن الرئاسة لأقلية على الطريقة اللبنانية لكن من دون صلاحيات كما في لبنان، وتكون السلطة بيد مجلس وزراء تتوزعه الطوائف برعاتها الإقليميين، ويترأسه ممثل الطائفة التي اشتغل العالم والإقليم على التلاعب بانتحال صفة تمثيلها، فيصير لجماعة واشنطن وباريس وأنقرة والرياض وتل أبيب حصتهم الوازنة.
– الحلّ الذي لمّح إليه دي ميستورا، ببنوده الأربعة، حلّ أمني يحفظ السلاح للميليشيات، وترك الحدود سائبة، وتمثيل سياسي مفخخ في طاولة الحوار، ومشروع بناء الدولة على أساس طائفي، تعادل عند السوريين حرباً كاملة وهم مستعدّون لخوضها قرناً كاملاً، ويصير هنا القبول الأميركي بحقيقة بقاء الرئيس الأسد ليس تنازلاً منهم، بل مجرّد اعتراف بالفشل، والمنطقي أنه لن يتقدّم حلّ سياسي، لا ينكفئ عن التمسك بهذه الألغام، فهوية سورية كدولة مركزية قوية ومدنية علمانية، ثوابت لا تحيد عنها القيادة في دمشق، ولا يوجد من يملك القدرة على نيل الأغلبية الشعبية اللازمة عبر صناديق الاقتراع لتغييرها كحقيقة دستورية مهما كانت حنكة الخياط، ومسلة دي ميستورا لا تنفع للخياطة هنا، كما لم تنفع مسلة الإبراهيمي، على رغم الفارق بين تهذيب الأول ووقاحة الثاني.
– حسنا فعل دي ميستورا بالاستدراك، أنّ الأمر يقرّره السوريون وحدهم في الحوار من دون تدخلات خارجية، وحسناً يفعل إذا استوعب أنّ بقاء الرئيس الأسد أمر حسمه السوريون ولا منة لأحد فيه، وإذا أهتمّ بتنفيذ القرارات الدولية بدلاً من تمييعها، وحسناً يفعل إذا استوعب أنّ الدولة السورية الجديدة لن تولد إلا بجيش واحد هو الجيش السوري، أمنياً، وبأحجام يقرّرها الشعب في صناديق الاقتراع دستورياً وسياسياً.
–