المشهد من الأردن بعد إحراق الكساسبة
د. إبراهيم علوش
لا شك في أن النظام الأردني أفاد كثيراً من إطلاق «داعش» فيلمها «السايكوباتي»، المتقن إنتاجاً وإخراجاً والذي يحقّق عدة أهداف منها: 1 تعبئة الشارع الأردني والعربي للانخراط في حملة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، 2 التهيئة لاحتمالات التدخل البري النظامي أو غير النظامي في سورية والعراق تحت لواء صرخة «الثأر لمعاذ!»، 3 التشكيك في وطنية أي جهة أو شخصية أردنية تجرؤ على المجاهرة باعتراضها على انخراط النظام أمنياً وعسكرياً وسياسياً في التحالف الدولي.
ثمة جريمة فظيعة ارتكبتها «داعش» لا تخفى عن أي عين ضمير نصف حي في العالم، وثمة جريمة إعلامية-سياسية أقل بروزاً ارتكبها النظام الأردني من خلف الستار عندما وظف النيران التي اكتنفت معاذ في محاولة حرق أي معارضة أردنية تتساءل أولاً عن المصلحة الوطنية الأردنية في زج زهرة شباب الأردن في المشروع الدموي للولايات المتحدة في الإقليم، وتشكك ثانياً في حكمة دخول معركة ضمن الأجندة الأميركية قد تهدد الأمن الداخلي في الأردن لا الأمن القومي العربي فحسب، وتتعجب ثالثاً من انتقائية المقياس المزدوج الذي يدعم العصابات المسلحة جنوب سهل حوران ويفتح لها المعسكرات التدريبية على الأراضي الأردنية ثم يعلن الحرب على الإرهاب شرق سورية وغرب العراق!!!
إذن وظف النظام جريمة «داعش» في تعزيز مشروعية دوره في خدمة السياسة الأميركية. في المقابل، كم أفادت «داعش» من إطلاق فيلم الرعب التكفيري الأخير؟ صحيح أن الإمارات سحبت مشاركتها الجوية من التحالف الدولي بعدما قدمت ست طائرات حربية إلى الأردن، بمعنى أن زخم القصف الجوي على «داعش» لم يقل، إلا أن ما قامت به «داعش» يسوغ أي خسائر مادية أو بشرية في الحملة البرية ضدها، فالمستفيد الحقيقي بهذا المعنى ليس «داعش» ولا الأردن الدولة والشعب، بل مشروع حكومة الولايات المتحدة الأميركية في سورية والعراق.
الإدارة الأميركية التي لا تريد أن تتكبد خسائر ضد «داعش» تمكنت الآن من تذليل بعض معارضة أهل المنطقة لمشاركة أبنائهم، سواء كانوا عراقيين أو أردنيين أو غير ذلك، في العمليات البرية على الأرض. إذ اقتضى الأمر جريمة لا يمكن تصورها، حتى في أقصى المعايير الهوليوودية، يمكن توظيفها إعلامياً في سياق الحرب النفسية. وإذا كان حرق البوعزيزي لنفسه قدح شرارة «الربيع العربي»، مع أن الصورة التي تساق على أنها لبوعزيزي في اللهب ليست له في الواقع، فإن استكمال حرق المنطقة بات يتطلب حرق أضحية أخرى على مذبح المشروع الأميركي.
يزعم الليبراليون العرب أن التكفير ظاهرة نشأت في كنف الأنظمة القمعية العربية، متجاهلين الجذور التاريخية للتكفير، وعشرات المليارات التي انفقتها الأنظمة البترودولارية في نشره خلال سني الحرب الباردة العربية والدولية، وأن التكفير تحول إلى ظاهرة جهادية في حاضنة أفغانستان التي رعتها الولايات المتحدة والأنظمة الخليجية، وأن الأنظمة المناهضة لحركات التحرر الوطني غيرت مناهجها المدرسية لتضخ التكفير عبرها على مدى عشرات السنين، فظاهرة من هذا النوع لا تنشأ بين ليلةٍ وضحاها، بل هي نتاج تراكم حثيث استغرق عقوداً من الرعاية والسقاية في المدرسة والجامع، وكان النظام الأردني من الأنظمة التي استخدمت حجة «التكفير» ضد القوميين واليساريين، ومن الأنظمة التي غيرت مناهجها منذ الخمسينات والستينات في اتجاه تكفيري، وأفلتت خطباء المساجد لتحريض الناس على المشروع النهضوي الوحدوي التحرري بذريعة «الردة»، ولذلك فإن كل ما يحصل اليوم، ومنه الجريمة البشعة التي اقترفت في حق معاذ، يتحمل النظام الأردني قسطاً من المسؤولية عنه، حتى لو تحول خطابه في اتجاه ليبرالي اليوم. نقول قسطاً من المسؤولية وليس كل المسؤولية لأن المذنب الأكبر في جريمة التكفير هو: حكام البترودولار.
سياسياً، ثمة جيوب كبيرة في الأردن تناصر «النصرة» أو «داعش» أو كليهما. والقصة لا تتعلق بتهميش سياسي بمقدار ما تتعلق بالتأثير الثقافي بالبترودولاري الذي تسرب إلى الأردن وغيره عبر وسائل الإعلام والثقافة والأردنيين العاملين في الخليج منذ عقودٍ خلت، وعبر التنظيمات الدينية، حتى «المعتدلة» منها، التي تحولت إلى قنوات لمثل ذلك التأثير التكفيري، وما قبل التكفيري بقليل، عبر الأقطار العربية والعرب في المهجر.
على موقع «المكتب الإعلام لولاية نينوى»، التابع لـ»داعش»، نشر تهديد مبطن في 6 شباط الجاري: «قريبا باذن الله… رسالة إلى أهل الأردن»، وحصل ذلك بعد إعدام ساجدة ريشاوي وزياد كربولي، وبعدما رشح عن تهديد «داعش» للأردن بنقل المعركة إلى عمّان إذا أعدم المعتقلون… ولا أرى أن في إمكان «داعش» راهناً السيطرة على الأردن من الخارج أو الداخل، أما زعزعة الاستقرار فيستطيع تنظيم «داعش» القيام به من الداخل وحده إذا قرر فتح مثل هذه المعركة.
باختصار، دفع الأردن، وقد يدفع أكثر، ثمن سياسة لا تحقق المصلحة الوطنية، حتى في مفهومها الضيق، وراح يبالغ في اتباع مثل تلك السياسة، في سورية خاصة، منذ ما يسمى بـ»الربيع العربي»، ولو كان معنياً بمحاربة الإرهاب حقاً لاصطف منذ البداية مع الجيوش العربية التي تحاربه فعلاً بعيداً عن «تحالف دولي» نشأ أساساً لدعم الإرهاب في سورية وجوارها. ولا يزال الأردن «يحارب الإرهاب» بطريقة تؤدي إلى تعزيزه بطرائق مختلفة، ليس في جنوب سورية فحسب، بل لأن أحد مصادر قوة «داعش» بين العرب والمسلمين هي أنه وحده من يجرؤ على مقاتلة أميركا وعملائها. فلا اجتثاث للإرهاب تحت المظلة الأميركية، ولا اجتثاث لثقافة الإرهاب بالخطاب الليبرالي المتغرب.