حاريص… بلدة جنوبية يعيلها المغتربون لا الدولة!
محمد أبو سالم
حاريص، أو «عروس الجنوب»، بقعة من أرض لبنان الجنوبي الذي لم ينحنِ يوماً، وبعنوان آخر هي «بلد الغريب»، لأنها حضنت كلّ غريب عنها في ظروفٍ قاسية مرّت على أبناء الوطن.
يقال قديماً إنّ اسمها كان «حرصتا»، أيام الاحتلال، وثبت اسمها على مرّ السنين حتّى اليوم على «حاريص»، أي التي تحرص على الصديق والعلاقات الاجتماعية. وتعدّ هذه البلدة من البلدات العريقة في الإسلام، ففيها مسجد يقارب عمره مئة والثلاثين سنة. وفيها حسينية تعدّ من أوليات الحسينيات التي بنيت في لبنان، إذ يعود بناؤها إلى عام 1960.
هي بلد العلماء والاجتهاد منذ زمن بعيد، عام 1958 كان للبلدة قاضي القضاة الشيخ يوسف الفقيه، وكان مرجعاً ورئيس الحوزة، وذا مكانة كبيرة على مستوى لبنان والعراق وإيران والشرق الأوسط، مترئساً القضاء الجعفري في لبنان.
ومن أشهر العلماء اليوم، الشيخ مفيد الفقيه الذي نال رتبة الاجتهاد كأبيه وأجداده، وجددّ بناء الحوزة العلمية الذي شاع ذكرها منذ قدومه من العراق إلى لبنان، وسميّت «حوزة النجف الأشرف»، إذ جمعت الكثير من النخب العلمية، واستقطبت كثيرين من منطقة جبل عامل، وتقدّم للمجتمع العاملي نخبة من العلماء المتقدّمين في مجال العلم الديني.
حاريص، قرية من قضاء بنت جبيل، تبعد عن بيروت 100 كيلومترٍ، وعن التخوم مع فلسطين المحتلّة 15 كيلومتر فقط، ترتفع عن سطح البحر 700 متر، ويصل عدد سكّانها إلى 15 ألف نسمة.
تُعرف البلدة باغتراب أبنائها العاملين في كافة المجالات، التجارة والصناعة والبناء، وما يعوّلون عليه لتأمين لقمة العيش ومتطلبات البلدة.
وفيها من العائلات: أحمد، فقيه، ناصر، حجازي، جواد، خليل، رجب، موسى، زهر، سعد، حسن، عسيلي، دمشق، مروّة، مالك، رزق، الرز، زلغوط، خواجة، صالح، رباعي، العلي، يحيى، نصور، دقيق، محسن.
تختلف حاريص عن غيرها بإمكانياتها الخاصة مع غياب الدولة. فسياسة بلدية حاريص برئيسها عماد سليمان أحمد تقوم على الاستعانة بالمقتدرين لإعانة الفقير والمحتاج.
أنجزت بلدية حاريص عدداً، لا بل الكثير ممّا يحتاجه أهالي البلدة. من شبكة مياه وبنى تحتية، طرقات، اهتمام بالبيئة، رياضة، مساعدات عينية وطبيّة وغيرها، شرح تفاصيلها رئيس البلدية وأثنى عليها أهالي البلدة.
قامت البلدية بمساعدة الخيّرين، بإنجاز مشروع ضخم، ويتمثل ببناء أكثر من ثلاثين وحدة سكنيّة، شبه فلل ، تصل مساحة البيت إلى 160 متراً مربعاً، وتتميز هذه البيوت، بأنه يمكن للمالكين أن يبنوا مساكن أخرى فوقها لأبنائهم في المستقبل، نظراً إلى الوضع الاقتصادي الصعب. وكان النصيب الأكبر من المشروع لأهالي حاريص المستقرّين في مدينة بيروت بنسبة 65 في المئة، فكان هدف البلدية تشجيعهم للعودة إلى القرية والاستقرار فيها، وقدّرت قيمة المشروع بخمسة ملايين دولار أميركي.
الخدمات في البلدية متوفرة 24/24، مؤكدين على أن «كبير القوم خادمهم»، أمّا أهم إنجازات البلدية:
ـ شبكة كهرباء واسعة تشمل البلدة كلّها وتعدّ من أفضل الشبكات في منطقة الجنوب، وفيها 17 محطة كهرباء، والشوارع مُنارة دائماً.
ـ شبكة طرقات مفتوحة على كل البلد، وتوسيع الطرقات الفرعية بكاملها، وتخطط البلدية لتزفيت الطرقات، معتمدة على مبدأ كلّما وسّعت الطرقات كلّما قلّلت من الخسائر، يصل أقل عرض في الطرقات إلى سبعة أمتار.
ـ زرع الأشجار على الطرقات العامّة والفرعية، وتعتمد البلدية زرع الأشجار المثمرة لإفادة المواطنين، وليشعر المواطن أنه شريك في هذه الشجرة ليحافظ عليها. وتقوم البلدية بتوزيع دبس الخرّوب على الأهالي من جَني الشجر.
ـ ملعب كرة قدم، قدّمته البلدية سابقاً للجيش اللبناني، واليوم تعيد تأهيله بمواصفات دولية رفيعة.
ـ ثلاث حدائق عامّة مؤهلة مرتيّن وحديقة قيدَ الإنجاز، وبناء مدرسة للبلدة.
ـ تقديم المعونات الطبية ومعالجة المواطنين، أكثر من 1500 عملية للمحتاجين على صعيد المنطقة وجوارها.
ـ مساعدات البعض من المتزوجين الجدد بتكملة بيوتهم وشقّ الطرقات الفرعية لهذه البيوت.
رئيس البلدية
بلدية حاريص، هي البلدية الوحيدة التي لا تملك مركزاً رسمياً لها، إذ يعتبر المجلس البلدي، أنّ المركز يكلّف مبلغاً بحدود ثلاثمئة ألف دولار، ما يقلّص من أموال الصندوق. ويفضّل المجلس إنجاز مشاريع إنمائية تستفيد البلدة منها، لذلك قدّم رئيس البلدية منزله لاستخدامه كمركز للبلدية.
قامت البلدية سابقاً بمشروع التعاونية الاستهلاكية الزراعية لصناعة المنتوجات المحليّة، إذ جمع المركز أكثر من ستّين فتاة مع إقامة دورات وزيارة معارض داخل لبنان وخارجه. إلّا أنه أقفل لأسباب اعتبرها رئيس البلدية غير ناجحة لأنها تحتاج إلى الصبر كي يتعوّد الناس على مثل هذه المنتجات. مشجعاً على الأكل من أرضنا الزراعية.
ويقول رئيس البلدية إنّ المجلس يحاول قدر المستطاع تأمين الراحة للمواطن، وقال: «جرّبنا عبر الدولة، لكننا لم نحصل على شيء، فكانت الإنجازات نتيجة مجهود من البلدية وبعض الخيّرين. النفط والغاز موجودان، والدولة لم تستطع حتّى الآن أن تتوصل إلى صيغة لإظهار هذه الثروة وإنعاش البلد وتقليل مستوى الدّين العام المتراكم. كلنا نعرف حجم الأموال في الدولة، ونحن كبلدية نشعر بأننا أنفع بكثير من دولتنا».
وتابع: «منذ 25 سنة، كانت الرحلة من حاريص إلى صور تستغرق أربعين دقيقة بسبب ضيق الطرقات بمساحة 4 أمتار والحفر الكثيرة. واليوم، إنّ تستغرق هذه الرحلة 20 دقيقة، ونكون بهذا قد كسبنا الوقت، لأن عامل الوقت مهم في تأمين المال».
وأضاف: «كلما زُفّتت طريق، يعاد تخريبها من جديد لمدّ شبكات المياه والهاتف وما إلى ذلك. وفي ذلك خسارة وهدر للأموال العامة، وإهمال.
على الصعيد المحلي، نتمنّى أن يكون المواطنون على مستوى من الوعي والتطور، وأن يبتعدوا عن الأنانيّة، ويركزوا على المصالح العامة لا على المصالح الشخصية فقط.
«أتمنى، وهذا أمر صعب في دولة كهذه، أن تستحدث وزارة للتصميم والتخطيط، التي يجب أن تعمل على مسح عام وشامل وكامل للطرقات قبل تنفيذ أي مشروع، والرجوع إلى هذه الوزارة دائماً قبل أيّ تخطيط».
المختار
التقينا أيضاً مختار حاريص علي ناصر، الذي قال إنّ البلدة تمتاز بمغتربيها، نصف عدد السكان ، وفيها نسبة من الأغنياء والفقراء، والأقلية حالتهم متوسطة. يتعاون أهالي حاريص في أمور كثيرة تحْيي المحبة والإلفة وروح التعاون بينهم، لدينا أناس خيّرون من آل أحمد، ومن وجهاء البلدة، يقيمون المشاريع المهمّة منها مشروع سكنيّ ضخم، ويساعدون المتزوجين الجدد مادياً.
نعيم أحمد
وكان لنا لقاء مع المغترب نعيم أحمد الذي قال: «كل الجنوب فيه مغتربون، ما يساعد أهالي المنطقة. ففرص العمل ميسّرة في الخارج، وأهل الجنوب أسسّوا عملهم خارج الوطن. بلدتنا جميلة بموقعها وكبيرة بأهلها وعظيمة بعلمائها. لكن المشكلة تكمن في عدم وجود اهتمام من قبل الدولة. خصوصاً في أبسط الأمور التي هي من حقوقنا. لكن أهل البلدة أمنّوا المياه والكهرباء برعاية رئيس البلدية وجهود المغتربين».
وتابع: «لبنان أجمل بلد في العالم، وأحب بلدي، لكنني أحزن لأن دولتي لا تحضنني كمغترب. ولو أن بلدتنا فيها الأمن والامان والاستقرار، لما سافرنا واغتربنا عن وطننا».