غياب الكاتب الجنوب أفريقيّ أندريه برينك… صوت إنسانيّ وأدبيّ مختلف

اختار الكاتب والمثقف الجنوب أفريقي أندريه برينك أن يوقظ في الإنسان إنسانيته، فسار في طريق التحرر ومناهضة التمييز، داعياً إلى القيم الإنسانية المثلى بروح شفافة وإحساس إنساني عال. طريق استغرق منه عمراً كاملاً، لم يوقفه فيه إلى آخر خطوة… سوى الموت.

كان الأديب الجامعي والمفكر أندريه برينك صديقا لنيلسون مانديلا، مناضلاً لا يكل، مناصراً لحقوق الإنسان. صوته الأدبي المختلف جعله أكبر الروائيين الجنوب أفريقيين وفارق الحياة الجمعة 6 شباط الجاري عن عمر 79 سنة. إلى جانب الحائزين جائزة نوبل ج.م. كويتزي ونادين غورديمير التي توفت في 14 تموز 2014، وكانا بالغي الأهمية في المشهد الأدبي الجنوب أفريقي. ترك برينك، هذا الإنساني المرهف الحس إلى أبعد حدّ بصمة أدبية وسياسية طبعت أجيالاً بأكملها.

ولد أندريه برينك في 29 أيار 1935 في مدينة فريد Vrede الصغيرة التي كانت لفترة وجيزة عاصمة دولة «أورانج» الحرة خلال حرب «بويرز» Boers الثانية والتي تعني بالهولندية وبلغة المعمرين الجنوب أفريقيين القدامى بأسلوب تبشيري «سلام»- من أمّ كانت تعمل معلمة، وأب قاض، ينحدران من معمرين «بويرز» قدامى استقروا في أفريقيا منذ ثلاثة قرون، ويمكن القول إنه لم يرث بالضرورة صبغة التمرّد والثورة.

وصف في صحيفة «لوموند» الفرنسية عام 2010 مراهقته المترفة في قرية نائية في أفريقيا المعمورة. مراهقة طفل لم يكن يأبه للنظام المطبق ولا لسياسة بريتوريا العنصرية. بل أكثر من ذلك، كان شاباً يعترف بأنه لا يعرف حتى اسم المربية السوداء التي كانت تحمله على ظهرها، والتي علمته لغة «السوطو». وذات يوم، حدثت الصحوة أو بالأحرى «المفترق»، من وحي عنوان أحد كتبه، إذ اعتاد القول واصفاً ذلك التحوّل بـ«ولادة ثانية».

عام 1959، بعد إجازة مزدوجة في الأفريقانية لغة المعمرين الجنوب أفريقيين القدامى والإنكليزية، حصل عليها من جامعة وتشيفستروم، توجه إلى باريس. كان في الخامسة والعشرين يوم التقى في جامعة السوربون طلاباً سوداً لا يبدون البتة منبوذين أو مقصيين من النظام الاجتماعي. استيعابه فظاعات التمييزالعنصري تلازم مع «قصة حب» لفرنسا إذ سيلعب أدب هوغو، زولا، كوليت، سيمونون، وكامو خاصة الذي ترجم له إلى الأفريقانية، دوراً حاسماً. شيئاً فشيئاً، سيشتد موقفه المناهض للتمييز العنصري، كما يشهد على ذلك عمله المحرر باللغتين الأصليتين الأفريقانية والإنكليزية. وعام 1968، بعدما قرّر مغادرة فرنسا، عاد إلى بلده مصرّحاً بمناهضته التمييز العنصري: «يمكننا أن نختار وسيلة عملية وفاعلة إما برمي القنابل أو بممارسة السياسة، أو نلجأ إلى الكتابة التي تأخذ في سياق العالم الثالث شكل حركة ذات دلالة» صحيفة «لوموند»، عدد 26 تشرين الأول 1984 . اختار برينك سبيل الكلمات.

بعد كتابه «السفير» أصدر أكثر من عشرين مؤلفاً، روايات وأبحاث ومقالات، بينها «إلى أسْود من الليل» 1976، منعته الرقابة في جنوب أفريقيا ، «فصل أبيض وجاف» 1980، نال جائزة ميديسيس للأجانب في فرنسا واقتبس سينمائياً على يد المخرجة الفرنسية أوزان بالسي، و«جدار الطاعون» 1984 و«عمل رهيب» 1991 ، و«فيليدا» 2014 .

إعادة قراءة «برينك» على ضوء هجمات الجهاديين تجربة جدّ فريدة جداً. لنتناول كتابه «عمل رهيب» على سبيل المثال، فالكاتب يتفحص فيه هذا النوع من الأعمال «العملية والفاعلة» التي كان يستبعدها دوماً. بطله «توماس لاندمان» حالم يغوص وسط كتبه صوره وأفكاره، عصامي يصيح في بداية الرواية: «لا أحد يمكنه البتة إقناعي، البتة البتة بأن العنف يسعه أن يجد لنفسه تبريراً».

رغم ذلك، سنتبع المسار الذي يخالج أعماقه والذي سيدفعه إلى تفجير قنبلة خلال موكب رسمي للرئيس. تخطئ القنبلة هدفها ولن تصيب سوى ضحايا أبرياء. تشويق وإثارة. «إن التفكير والتأمل في الإرهاب يخلص في ما ما يخلص إلى تساؤل حول وضع الإنسانية» يقول تولستوي.

في هذه الوجهة الميتافيزيكية كان برينك يقول إنه كان يرغب في مرادفة هدفين ثانويين مشيراً إلى أنه «حتى الكتابة، ثمة العديد من الاختيارات الممكنة. يمكننا أن نغدو أكثر مهارة وإبداعا، إلى حدّ ألاّ يستوعب المؤلَّف سوى حفنة من القراء المطلعين. أو نهبط إلى مستوى الدعاية السوقية».

معتبراً هذين الخيارين غير «مشرّفين»، كان برينك يؤكد أنه في الأدب، وحده «الواقع المبهم» الذي تحدّث عنه بارت هو ما ينبغي توضيحه. كان يردد: «يجب أن أفعل كل ما في وسعي لأكون أهلاً لمتطلبات العالم السوسيوسياسي الذي أنتمي إليه وتعقيداته»، مضيفاً «وفي الوقت نفسه، يجب أن أفعل كلما بوسعي لأكون أهلاً لمتطلبات الإبداع الأدبي. وحدها الجودة تضمن الفاعلية». تصوّر راق جداً لحرية التعبير.

من أبرز أعمال برينك «صمت مضطرب» و«إداماستور» و«حقوق الرغبة» و«الحب والنسيان» و«البوابة الزرقاء». واستأنف الكتابة بعد سقوط نظام الفصل العنصري، وأصدر روايات عديدة بينها «الحشرة المبشرة» وتسرد تفاصيل مغامرات طفل خارق أضحى المبشر الأسود الأول في أفريقيا الجنوبية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى