كاد المريب أن يقول خذوني…
د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجيّة السوريّة
منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب الإرهابية على شعب سورية وحضارتها بدعم «إسرائيلي» وأميركي وسعودي وأوروبي ومن كل المتعطشين للدماء والدمار، كشفت سورية أهداف هذه القوى ورسمت استراتيجيتها لمواجهة هذه الحرب. ولا نذيع سراً إذا قلنا إنّ التحالف التركي والفرنسي والسعودي مع الإرهابيين لم يفاجئنا كثيراً. فالنظام التركي لم يخفِ أيديولوجيته الدينية وولاءه للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين طيلة السنوات التي حاول أردوغان وداود أوغلو أن يعطيا الانطباع فيها بأنهما يراعيان مصالح الشعب السوري ورغبتهما بتعزيز العلاقات السورية التركية. أما فرنسا، وقياداتها التي أضاعت بوصلة العقل والتفكير، فإن سياسات قادتها الاستعمارية وقصيرة النظر، والحاقدة في كثير من الأحيان، أو بالأحرى، التي أصبحت أكثر تصهيناً من بعض صهاينة «إسرائيل»، فإن ما أطلق عليه البعض بسياسة احتواء سورية سواءً أيام حكم جاك شيراك 1995-2007، أو خلفه نيكولاي ساركوزي 2007-2011، فقد وصلت جميعها إلى حائط مسدود، وبالنتيجة إلى الفشل الذريع. أما الأسباب الحقيقية للهجمة السعودية القطرية على سورية التي تترنح الآن على يد أبطال جيش سورية البطل والتفاف الشعب السوري خلف الاستراتيجيات التي رسمها الرئيس بشار الأسد لحاضر ومستقبل الشعب السوري، فإنها تعود للتبعية المطلقة من جانب هذين النظامين للسياسات الغربية والصهيونية واستعدادها لتقديم خدمات مجانية للغرب و»إسرائيل» لإثبات الولاء وضمان حماية الغرب لهذين النظامين. ومما عزز نجاح النهج السوري في إفشال الهجمة، في المقابل، هو تفهم السوريين وقطاعات واسعة من الرأي العام العربي والرأي العام العالمي وصناع الرأي العام لصحة منطلقات السياسة السورية خصوصاً تأكيدها على أن الإرهاب الذي عانت منه سورية منذ الساعات الأولى لاندلاع الأعمال الإرهابية فيها في شهر آذار عام 2011، وحتى الآن، سيمتد إلى دول المنطقة وما وراءها.
لا بد لأي متابع للموقف الدولي إزاء الأزمة السورية مؤخراً أن يلاحظ انقلاباً نسبياً في هذا الموقف. وما يقودنا إلى هذا الاستنتاج هو الانهيار العملي والأخلاقي العميق في مخططات القوى التي استهدفت سورية وظهور إفلاس جلي من قبل أصحاب المخطط مقابل صمود سورية والمناعة الأسطورية لشعبها وقيادتها والبطولات التي سجلها جيشها.
وفي هذا المجال، لا بد من التطرق إلى ما أصبح واضحاً في مواقف الشعوب الأوروبية وصحوة الكثير من مسؤوليها والسياسات التي بدأوا في تغييرها، إلاَّ أننا، في الحقيقة، لا نعول كثيراً على ذلك حتى الآن. وتشير أجهزة الإعلام الغربية إلى الكثير من المعلومات حول التحولات التي نتحدث عنها من خلال تسريبات هؤلاء المسؤولين الذين يخشى بعضهم الإعراب بجرأة وحرية عن قناعاته علناً، إلا أن ما يصلنا من أطراف مسؤولة وصادقة يعكس هذه القناعات. ومما لا شك فيه أن ما ينقله الكثير إلينا من المسؤولين الأوروبيين حول ما يدور في اجتماعاتهم سواء كان على مستوى القمة أو مستوى وزراء الخارجية، جعل الصورة تظهر بوضوح من خلال ما نسمعه عن عزل المواقف المتشددة لبلدان داخل الاتحاد الأوروبي مثل الموقفين الفرنسي والبريطاني، مقابل أصوات تعكس عقلانية الرؤية والتحليل لدى عدد كبير من ممثلي الدول الأخرى. وعلى رغم عدم وجود تغير كبير في بيانات وثرثرة هؤلاء المسؤولين، إلا أنه أصبح أمراً حقيقياً أن نقول إن المواقف المتشددة أصبحت تتراجع على خلفية ما يجري على الأرض في سورية والمنطقة. فقد سمعنا، على سبيل المثال، أن الخارجية الفرنسية قامت باستدعاء أحد سفراء دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وتقديم احتجاج رسمي على موقف وزير خارجيتها الذي عبّر عنه في أحد الاجتماعات الوزارية الأوروبية. أما الكلام الكثير الذي تحفل به الوثائق الصادرة عن هذه الاجتماعات، فإنه يعكس عملياً قناعة هؤلاء بأن مواقفهم السابقة حول سورية كانت حبلى بالأخطاء والتناقض وقصر النظر. إن الرئيس أو الوزير الذي لا ينظر أبعد من أنفه، ليس قائداً ولا مسؤولاً كما هي الحال بالنسبة لقيادات في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. فهؤلاء القادة الذين كابروا وكذبوا على شعوبهم لفترة تزيد على أربعة أعوام يتحملون نتائج الإرهاب الذي ضرب بلدانهم من دون رحمة، خصوصاً طيلة الشهرين الماضيين في فرنسا على الأقل. كما ظهر جلياً مؤخراً ذلك التأثير السياسي المدمر على الأمن والاستخبارات. فنحن نسمع بين وقت وآخر حول الضغوط التي مارسها السياسيون الأوروبيون على الأجهزة الأمنية الأوروبية وإلزامها بتنفيذ مؤامرات واعتماد إجراءات تتناقض مع مصالح الشعوب الأوروبية لتلبية سياسات نابعة من أبعاد شخصية تخدم أجندات انتخابية أو شعبوية على المدى القصير، إلاَّ أنها تضر بمصالح هذه البلدان على المدى المتوسط وعلى المدى البعيد. وفي هذا المجال، كتبت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية بتاريخ الخامس من شباط ما يلي: «تعرف الأجهزة المعنية أن فرنسيين اثنين يأتون إلى تركيا بقصد الذهاب إلى سورية».
لقد أكدت سورية منذ بدء الأزمة فيها على الدور الخطير الذي قامت به بعض الحكومات والاستخبارات الأوروبية في تعزيز آلة القتل والتدمير الإرهابية في سورية. ولم نكن بحاجة إلى أن تؤكد الاستخبارات الأميركية أنه وصل إلى سورية خلال وقت ليس بعيداً من الآن ما يزيد على عشرين ألفاً من الإرهابيين الأجانب من تسعين بلداً من العالم. وكما أكدنا سابقاً، فإنه من الخطأ التمادي في إنكار ذلك من قبل القيادات الأوروبية وأدواتهم في المنطقة وخارجها من أتراك وسعوديين وأردنيين، فهل يمكن أن تقوم تركيا بتمرير كل هؤلاء الإرهابيين إلى سورية من دون علم وموافقة بعض أجهزة الاستخبارات الغربية وبخاصة منها الأميركية والفرنسية؟ ومما يعري الأكاذيب الأوروبية والأميركية هو أن الاعتراف بمثل هذه الحقائق لم يأتِ إلا بعد أحداث باريس والأحداث الأخرى في فرنسا وأستراليا وهولندا وبلجيكا وغيرها التي كشفت حجم التعاون الإرهابي الكبير الذي دفعت به الحكومة الفرنسية وغيرها مع تركيا حيث ورد في ذات الصحيفة ما يلي: «طردت السلطات التركية حتى اليوم أكثر من ألف شخص يتطلعون إلى الجهاد، كانت أسماؤهم موجودة في قائمة تتضمن سبعة آلاف اسم، وتم إعدادها بمساعدة بعض الدول الأجنبية».
أما الفضيحة الكبرى المعلنة فهي تهريب تركيا للإرهابية الفرنسية حياة بومدين عبر الحدود التركية إلى سورية قبيل ارتكاب جريمة باريس. ومن جهة أخرى، لم يعد ممكناً بالنسبة للدول الأوروبية إنكار الدور الإرهابي الذي مارسه نظام رجب طيب أردوغان في تمرير عشرات الآلاف من الإرهابيين إلى سورية. فقد ذكرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أن: «تركيا تمثل محطة «ترانزيت» لتدفق مقاتلي داعش إلى العراق وسورية». وكانت مجلة دير شبيغل الألمانية قد ذكرت بتاريخ السابع من شباط الجاري أن حوالى 100 امرأة من ألمانيا توجهن إلى العراق وسورية إما لمساعدة أزواجهن في مناطق القتال أو الانضمام إلى صفوف «داعش».
لقد أعلن رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس بتاريخ 9 شباط 2015، أن «هناك ما يقارب 1900 شخص تم تحديد هويتهم، سواءً كانوا فرنسيين أو مقيمين في فرنسا، على علاقة بالشبكات الإرهابية. وهناك نحو 750 شخصاً يقيمون هناك أو أقاموا و410 أشخاص لا يزالون في الموقع أو 260 شخصاً غادروا، و80 فرنسياً أو مقيماً في فرنسا قتلوا». ومما يدل على تواطؤ فرنسا سياسيين وأمنيين مع الإرهاب هو أنهم أغمضوا أعينهم عن الإرهاب والإرهابيين طيلة أربع سنوات طالما أنه كان يضرب سورية، وصحوا فقط عندما عادت طيور الظلام إلى أعشاشها في باريس وغيرها. وفي هذا المجال نشرت صحيفة «فيغارو» بتاريخ 3 شباط ما يلي: «اعتقلت أجهزة الأمن الفرنسية ثمانية جهاديين سبعة رجال وامرأة في ضواحي مدينتي باريس وليون يوم الثلاثاء 3 شباط تتراوح أعمار الجهاديين بين 22 و46 سنة، وعاد ثلاثة منهم من مناطق القتال التي قاتلوا فيها تحت راية الدولة الإسلامية … وأن أعضاء المجموعة ذهبوا إلى سورية على ثلاث دفعات في أيار عام 2013». وأضافت الصحيفة أن «الإحصاءات تُشير إلى وجود 1400 فرنسي أو مقيم في فرنسا على علاقة بالجهاد».
وعلى رغم كل ما ورد أعلاه، إلا أن دور النظام التركي في قتل السوريين يبقى الأكثر دناءة وانحطاطاً وإرهاباً. وفي الوقت الذي انعكس هذا الدور الإرهابي دماء ودماراً في سورية والعراق، إلا أنه انعكس أيضاً خطراً على أوروبا والعالم. وأثق أن السوريين وكل من عانى من شرور الإرهاب الذي ترعاه أجهزة النظام التركي يعرفون جيداً أن دور أردوغان كان الأكثر خطراً، ولم يتفاجأ العالم عندما كشفت تركيا مؤخراً، مؤخراً فقط، عن حقائق لم تظهر إلا الآن عندما أعلن الناطق باسم الخارجية التركية المدعو «تانجو بيلفيج» أن عدد المقاتلين الأجانب المحتمل عبورهم إلى سورية، لاحظوا أنهم يعرفون العدد المحتمل، سجل زيادة تقدر بنحو ألفي شخص منذ الأسبوع الفائت وحتى الآن. وأشار هذا الناطق الرسمي التركي إلى أنه: «يوجد في سورية قرابة 15 ألف مقاتل أجنبي». لقد اعترف بعض من ألقي القبض عليهم في تركيا بالذات ومنهم المدعو محمد اشكار، المتهم بدعم الإرهاب، بأنه كان ينقل السلاح إلى الإرهابيين بالتعاون مع الاستخبارات التركية وقبل بدء الأزمة فيها. فهل هناك من عاقل لا يصدق أن النظام التركي كان خلف دخول هؤلاء الإرهابيين إلى سورية؟ أما نحن فقد قلنا منذ البداية إن تركيا كانت خلف كل سفك الدماء في سورية وأنه يجب محاسبة أردوغان بموجب قرارات مجلس الأمن 2170 و2178 و2199 التي اعتمدت خلال الأشهر القليلة الماضية تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بهدف محاربة «داعش» و»جبهة النصرة» وكل تنظيمات «القاعدة» المرتبطة بها ومنع حركة الإرهابيين الأجانب ومنع استخدام النفط والآثار في سورية والعراق لتمويل نشاطات هذه التنظيمات الإرهابية.
طيلة حرب الإرهابيين على سورية وجد قادة «العدالة والتنمية» في تركيا أنه لا يوجد أفضل من ظروف الفتنة والفوضى والإرهاب في سورية ودول عربية أخرى مثل ليبيا ومصر واليمن وتونس لتنفيذ مخططاتهم ومشاريعهم الدنيئة.
ما أوردناه أعلاه لا يمثل إلا غيضاً من فيض حول ما اعترف به مسؤولون في تركيا وأوروبا والولايات المتحدة حول الإرهاب الذي ضرب سورية. ومما يدعو إلى الاشمئزاز هو ذلك التحالف الإرهابي غير المقدس بين بعض الدول الأوروبية والنظام التركي، حيث يندر أن نجد قواسم مشتركة بين الدول الأوروبية والنظام التركي بعيداً عن استفادتها الخاصة من دور تركيا في حلف الناتو. لكن المجتمع الدولي، بما في ذلك الأوروبي طبعاً، شجب انتهاكات النظام التركي السافرة والممنهجة لحقوق الإنسان والاعتداء على المتظاهرين السلميين واقتحام مكاتب الصحف واعتقال الصحافيين من دون محاكمة، وحظر أردوغان وعصابته لمواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى ما شهدته الساحة التركية من فضائح فساد وتأثير في استقلالية القضاء.
لقد أصبح كل سوري يعرف أن «إسرائيل» من خلال تحالفها مع فرنسا والولايات المتحدة ونظام آل سعود وتآمرهم مع النظام التركي، تقف خلف التفاصيل الدقيقة والدمار الذي شهدته سورية والدماء الطاهرة التي سفكت في كل أنحاء سورية. إن الإرهاب و»إسرائيل» اسم واحد لما تشهده منطقتنا من دمار ومعاناة. وما تحالف «إسرائيل» المكشوف مع «جبهة النصرة» و»الجيش الحر» والتشكيلات المتأسلمة الأخرى إلا أعمال إرهابية أصبحت عارية لن تغطيها أشجار التوت وأوراقها في كل العالم.
ويبقى السؤال الأخير هو: لماذا لم تظهر بالنسبة للبعض هذه المعلومات حول الطبيعة الإرهابية للأزمة السورية إلا الآن؟ الجواب الوحيد على هذا السؤال هو انكشاف أبعاد المؤامرة على سورية التي صمدت أربع سنوات وقاومت ودافعت عن عزتها وكرامة شعبها وحرصها على استقلال قرارها السياسي إزاء الصراع العربي «الإسرائيلي». كما تأتي هذه الاعترافات، خصوصاً التركية منها، لاستيعاب وامتصاص رد الفعل الدولي على الدور التركي والأوروبي والأميركي الهدام في تأجيج الأزمة السورية من خلال الإرهاب وأدواته المتمثلة بالمتشددين والتكفيريين والمتطرفين الذين يمارسون الذبح وحرق البشر وهم أحياء وأكل قلوبهم وأكبادهم. ويأتي في مقدمة الأسباب التي عرت المتآمرين على سورية وأجهزتهم الاستخباراتية ودفعتهم إلى الاعتراف بما صنعت أياديهم، إنما يأتي أيضاً لاستيعاب ردود أفعال الشعوب داخل تركيا والدول الأوروبية وداخل الولايات المتحدة.
وتتتالى الاعترافات التركية وغيرها ظناً من هؤلاء أن يد العدالة لن تطاولهم. وإذا اعتقد هؤلاء أنّ مقولة: «كاد المريب أن يقول خذوني» لا تنطبق عليهم، فهم مخطئون.