صور… مدينة الأحياء المستمدّة أسماؤها من تراث لا يموت!
محمد أبو سالم
داخل أحياء صور القديمة، تقودك الأزقة المتعرجة والجدران الحجرية إلى قلب المدينة النابض. هنا «حارة صور»، قبل أن يمتد الزحف البشري والعمراني إلى خارجها.
عاشت العائلات الصورية في أحياء متلاصقة ومتداخلة، لكلّ منها حكايتها، ولكل منها تاريخها الذي حفر في ذاكرة أبنائها جذورا ًضاربة في الوجدان، فهي ذكرياتهم وإرثهم المتشبثين به، تشبث البحر بمدينتهم.
في أحياء صور، تختلط روايات الأهالي وشهاداتهم، بما سمعوه من أجدادهم حول أسماء بعض الشوراع والأحياء. فعلى رغم الإجماع حول بعض التسميات، يبقى الالتباس قائماً حول جزء آخر، بينما تغيب عن ذاكرة الجيل الناشئ من أبناء المدينة الأسباب والأصول التاريخية والتراثية لأسماء الأحياء التي يتحدرون منها.
تضحك «يارا» وتقول: «أمي من حي المنارة وأبي من حي الحسينية» والفارق بين الحيّين خطوات لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد. وتردد بفخر: «أنا أعرف الحارة شارعاً شارعاً، قضيت طفولتي هنا في بيت جدّتي أم العبد، التي أمضت عمرها في بيتها إلى أن ماتت من دون أن تفكر للحظة بمغادرته».
بعد توغلنا في أحد الأزقة، تقفز «يارا» لتتلمس براحتيها كتابات خطّتها ذات مرّة على بوابة حديدية صدئة. إنه منزل جدتها الغارق في الظلام بعد أن انتقلت منه العائلة. تتوقف «يارا» لإلقاء التحية على المارة الذين يترصدوننا بابتسامات ودودة، فالكل هنا واحد، لا مسافات ولا حواجز. تبادر بعدئذٍ لإرشاد رفيقتها فوزية إلى بيوت أصدقاء لهما.
الأخيرة تصف بيت جدها الذي لا تعرفه سوى من روايات الأهل، وأنه ضمن ما يعرف بـ«حيّ الجورة»، علّها تستطيع إرشادها إليه، لكن من دون جدوى، فبعض البيوت التي ُأقفلت وغادرها أهلها في فترة الستينات من القرن الماضي كثيرة، طاول الإهمال والخراب معظمها بشكل لافت، باستثناء القليل، والذي يعاد ترميمه اليوم ضمن مشروع الإرث الثقافي.
بدوره، يعرف أنطوان غنيمة كل تفاصيل المدينة، وأسماء الأحياء والمناطق التي تتحدر منها معظم العائلات التي غلبت عليها الألقاب. مثل «بحر مباركة» الذي سمي نسبة إلى امرأة كانت موجودة في ذلك المكان، ويعتبرها البعض قدّيسة مباركة. فيما سميت منطقة «الخراب» بذلك بعد قطع الأشجار التي كانت منتشرة فيها فأصبحت خراباً. أمّا حي «الفنار»، فتقول الأحاديث إنّ الاستعمار الفرنسي ركّب «فناراً» لمعرفة الوجهة إلى مدينة صور وسط الظلمة، فاتخذوه مرشداً لهم وسمّوا المنطقة بـ«الفنار». إضافة إلى ذلك، يذكر أنطوان أسماء عدد من أسماء المناطق التي عرفت قديماً منها: «مينة الوعر، حجر المقلوب، مينة أبو زيد، حرف السلامة، رأس المجاهد، بستان الأخرس، براك الصليب، سطيح الجواني، مينة الشراطيط، رأس الإنكليز، النبي اسماعيل، مينة الرصاص، مينة خليل فاخوري».
ويؤكد علي سلامة أن ما يعرَف اليوم بـ«منطقة الجمل»، هي منطقة «ترعة» التي ذُكرت في التاريخ القديم بتوسطها المرفأين المصري والصيداوي. ويعتقد أن اسمها يرمز لشخص معين.
رئيس مركز الآثار في صور الأستاذ علي بدوي، لـ«البناء» وموقع «صوت الفرح» الإلكتروني، أنّ بعض الأسماء التي أطلقت على الأحياء والمناطق في المدينة، لها أساس تاريخي ولغوي واضح، مثل «حيّ الخراب» و«البوابة» و«المصاروي»، وغيرها من المناطق، وأنّ البعض الآخر جاء نتيجة اجتهادات. فمثلاً، يتدوال الصوريون قصصاً كثيرة عن تسمية «بحر مباركة»، بعض الروايات تذكر أن المياه في تلك البقعة مباركة من السيد المسيح، ليروي لنا البعض أن سيدة كانت تدعى بهذا الإسم، وكانت تبارك المياه ببقائها نقية كلما سبحت فيها.
ويقول بدوي: «بالنسبة إلينا، نأخذ بالتراث المحكي حينما لا يتوفر لنا مصدر واضح للتسمية. مثلاً حي النبي اسماعيل الذي توارث سكان المدينة إضاءة الشموع إيفاءً للنذور في المقام الذي يحمل الشارع شهرته، لاعتقادهم أن النبي اسماعيل قد دُفن هناك، فتحول المكان إلى مقام له رمزية دينية. تاريخياً، ليس ثمة دليل يؤكد أنّ نبياً دُفن في المكان، والأرجح أنه مدفن لأشخاص هم إما رجال دولة أو رجال دين، والأغلب أنه ضابط عثماني».
من التسميات الغريبة المنسوبة إلى التراث المحكي، الشاطئ الصخري والمعروف بـ«الجمل»، ويشير بدوي إلى أن احد شهود العيان أكد له وجود صخرة كانت على شكل جمل، فأصبح الشاطئ معروفاً بذلك الإسم، بينما يظهر الدليل التاريخي واضحاً في تسمية «الزيرة»، وهي كناية عن مجموعة جزر صغيرة داخل البحر، «الزيرة الصغيرة والزيرة الكبيرة»، والتي كانت مأهولة بالسكان في إحدى الفترات التاريخية، إذ استخدم بعضها الفينيقيون كمرسى للسفن أو معابد في فترات لاحقة. أما منطقة «الخراب»، فقد كانت للدلالة على كمية الخِرب القديمة وبقايا الأعمدة والجدران والمنشآت الأثرية التي كانت موجودة خارج المدينة، والتي تعود إلى القرن التاسع عشر. بينما لا يزال إلى اليوم يعرف مدخل السوق في صور بـ«ساحة البوابة»، نظراً إلى وجود بوابة المدينة القديمة في ذلك المكان، والتي بناها الشيخ عباس النصار، باني صور الحديثة بهدف حماية المدينة. وكان يُحظر الدخول والخروج إلا من هذه البوابة… والكلام لبدوي.
أما الأحياء التي يتحدّر سكان المدينة منها، والتي ما زالت إلى اليوم مأهولة بالسكان على رغم مغادرة بعض العائلات منها في منتصف القرن الماضي نتيجة الزيادة السكانية فهي:
«حي المنارة»: أطلق عليه هذا الإسم نسبة لوجود منارة لإرشاد السفن هناك وكان الحي جغرافياً أعلى من غيره، كما يُذكر أنّ الحي كان مشهوراً بإضاءة الفوانيس المشعّة ما جعله مميزاً عن غيره.
«حي البساتين»: كانت المنطقة خارج الحارة القديمة مشهورة بوجود بساتين الليمون والحمضيات وهي المنطقة المعروفة بالرمل اليوم، وقد سُجل إقامة عدد من العائلات القادمة حديثاً إلى صور فيه.
«حي الجامع»، يحمل كنية الجامع القديم، الذي بناه الشيخ عباس محمد النصار ـ باني صور الحديثة ـ إذ ما زالت التسمية معتمدة إلى اليوم.
«حي الحسينية»: تشير الروايات إلى وجود حسينية قديمة كانت تقام فيها مجالس العزاء.
«حي المصاروة»: أضيف بعد عام 1832 مع حملة إبراهيم باشا الذي أحضر معه مجموعة من الجنود والعائلات من مصر وأسكنهم في هذا الحي، وهو ما يوضح وجود بعض العائلات الصورية ذات الجذور المصرية.
«حي الجورة»: نظراً إلى موقعه الجغرافي في شبه «جورة»، أي أنه منخفض عن غيره من الأحياء.
«حي الموارنة»، «حي الكاثوليك»، «حي الأرثوذكس»: الواضح من التسمية أن أبناء الحارات كانوا يتوزّعون عليها بحسب مذاهبهم ليبقى الانقسام ورقياً نظراً إلى الإندماج بين سكان صور.
«حي الرمل»، والذي كان عبارة عن كثبان رملية وعدد من البساتين قبل أن تبدأ بعض العائلات في الحارة القديمة بالانتقال إليه، ليصبح أحد أكبر أحياء المدينة على رغم غيابه عن السجلات الرسمية في الدولة اللبنانية.