ملكة أبيض تروي فصولاً من تجربتها الأدبيّة المستمرّة وشراكة الحياة والإبداع مع الراحل سليمان العيسى: التزمتُ الخطّ القوميّ في مؤلّفاتي وترجماتي والمعركة الثقافيّة موازية للعسكريّة والسياسيّة

سلوى صالح

دمشق سانا : في الحديث عن تجربة الأديبة المخضرمة ملكة أبيض، لا يمكن الفصل بينها وبين زوجها الشاعرالراحل سليمان العيسى، حتى في أدق التفاصيل، إذ كان كل منهما يكمل الآخر ويقف الى جانبه في تجربته الإبداعية. وإذا كان وراء كل عظيم امرأة فإنها لم يكن يهمها من هو خلف إبداع الآخر. ربما لا يعرفها البعض، إنما يسعدها أن تكون معروفة من خلال زوجها، وهي لا تغار من شهرته بل تعتز بكونها زوجته.

دأبت منذ سني دراستها الأولى على التفوق وكسر القيود الاجتماعية التي تمنع الفتاة من إتمام دراستها، وشاركت في التظاهرات ضد الاحتلال الفرنسي، وترجمت أمهات الكتب وحملت رسالة قومية ومشروعاً ثقافياً ما زالت تنهض به إليى اليوم، رغم كونها في العقد التاسع من العمر. ولمعرفة تفاصيل تجربتها الغنية أجرت «سانا الثقافية» معها الحوار الآتي:

كيف كانت بداياتك الأدبية؟

ـ كانت نشأتي في بيت ثقافي في حلب في النصف الأول من القرن العشرين، وكنت واحدة من تسع بنات لأب منفتح الذهن يتقن اللغات. وشكلت المكتبة المنزلية بذور الوعي الثقافي الأولى لدي فقرأت جبران ودلائل الخيرات والعديد من الكتب الأدبية، وتعرضت أسرتي لضغوط لمنعي من إتمام دراستي، لكن تفوقي وحصولي على منحة للدراسة الثانوية التي كانت تحتاج الى أقساط في ذلك الوقت شجع والدي على التمسك بإتمام دراستي. وكنت أشارك في جميع التظاهرات التي كانت على أشدها ضد الاستعمار الفرنسي، ما جعل إدارة المدرسة تحجب عني المنحة فاضطررت الى العمل أنا وشيقاتي في التطريز والخياطة والدروس الخصوصية لإتمام دراستي، فحصلت على البكالوريا بتفوق وعملت على تثقيف نفسي بحيث لا أترك وقتاً للفراغ.

كيف ومتى ارتبطت مسيرتك بمسيرة سليمان العيسى؟

ـ بعد البكالوريا أوفدت في بعثة إلى بروكسل فدرست اختصاصين في وقت واحد، التدبير المنزلي والعلوم التربوية والنفسية. وفي إجازة العطلة الصيفية للسنة الثالثة جمعني القدر مع سليمان العيسى لدى أهلي في حلب بعدما صار واحداً من أفراد الأسرة. والحقيقة أنه ساعدني كثيراً وراح يرافقني إلى المحاضرات والندوات والمكتبات والأجواء الثقافية بمعرفة والدي الذي يثق به.

عرفنا دورك في حياته فما كان دوره في حياتك؟

ـ زرع سليمان في داخلي شيئاً من التفاؤل في تلك الفترة وفتح لي آفاقاً ثقافية، فاتفقنا على الزواج وكنت أشعر بعد نيلي الإجازة الجامعية أن لدي مشروعاً في الحياة ورسالة قومية بمشاركة شباب متحمسين يعملون لنهضة البلاد وتطويرها، وكنت على وشك وقف الدكتوراه بسبب متاعب الأسرة والأولاد، إلاّ أن وجود سليمان معي جعلني أتابع نشاطي الثقافي والأكاديمي. في تلك الفترة كانت الثورة الجزائرية مشتعلة، وقدم الشاعر الجزائري مالك حداد وهو قطب من أقطاب الثورة الى حلب ليجلب الدعم لها، وكان يتكلم الفرنسية ولا يجيد العربية، فبدأت أنا وسليمان ترجمة الكتب التي يحضرها لنا من الفرنسية الى العربية، وأولها ديوان «الشقاء في خطر». فترجمته له بمساعدة سليمان الذي كان يدقق ويراجع ليصدرفي الستينات ديوان مالك حداد في ترجمة لملكة أبيض ومراجعة العيسى. ثم أرسل إليّ كاتب ياسين روايته المشهورة »نجمة« وعدداً من المسرحيات باللغة الفرنسية فترجمتها الى العربية. وفي تلك الفترة كتب سليمان ديوان «صلاة لأرض الثورة» وبدأ عمل مشترك بيننا. ومن اللحظات الأولى كان هناك نوع من التفاهم والعمل المشترك والتأثير المتبادل، وكنت سعيدة إذ بدأت العمل الأدبي الى جانب زوجي وبدا التعاون واضحاً وكان كلٌّ منا بجانب الآخر في جميع أعمالنا الأدبية.

هل شعرت يوماً بأن حضوره الأدبي والإعلامي والاجتماعي يطغى على تجربتك؟

ـ كلا، البتة. كنت مؤمنة بأن لسليمان العيسى قيمة وطنية كبيرة وقيمة أدبية شعرية مميزة ولذلك يجب أن أدعمه. وإذ كنت أهتم بجان جاك روسو وغيره من الشخصيات الأجنبية اكتشفت أن سليمان قد يكون مفيداً لأطفالنا وشبابنا أكثر، ومنذ تلك الفترة أردت أن يكون لي جهد ومشاركة في عمل سليمان، ولم يكن يهمني في أي وقت من هو خلف الآخر. قد لا يعرفني البعض، لكن يسعدني أن أكون معروفة من خلاله وأعتز بكوني زوجته.

هل تابعت تجربتك في الترجمة مع الشاعر الراحل ؟

ـ عملي في الترجمة مع العيسى توقف عام 1956 بعد 15 سنة من زواجي إذ رشحت في تلك الفترة لمنحة لمتابعة الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت لتدريب المدرسين في المجال التربوي. ترددت كثيراً بسبب مسؤولياتي المنزلية والأسرية إلاّ أن سليمان شجعني على قبول المنحة متحملاً مسؤولية تربية الأولاد بالتعاون مع أهله، وخلال ذلك كنت أترجم الأبحاث التي تساعدني في أطروحتي الماجستير والدكتوراه فلم أنشر شيئاً حتى الثمانينات، وكان هو منهمكاً بدواوينه والإشراف على الأطفال. وبعد حصولي على الدكتوراه التي استغرقت عشر سنوات لكونها دكتوراه دولة مختلفة عن الدكتوراه العادية وتحتاج جهد كبير، عدت للعمل في التأليف والترجمة وقمت بتنسيق أعمال زوجي ومساعدته والترجمة معه في أدب الأطفال.

ما هي مجالات الترجمة التي عملت فيها؟

ـ ترجمت رسالة الدكتوراه عنوانها «التربية والثقافة العربية الإسلامية في بلاد الشام في القرون الثلاثة الأولى للهجرة» التي لم يكن فيها نظام تربوي بالمعنى المعاصر إنما كانت التربية نوعاً من الثقافة العامة التي ينشأ من خلالها الناس سواء في المسجد أو الرحلات والأسفار. الكتاب الثاني هو رسالة الماجستير التي ترجمتها الى العربية بعدما أضفت إليها دراسة مكملة ومقارنة اجتماعية عن قيم الشباب في جامعة دمشق آنذاك، فالقيم تتغير كل خمس عشرة سنة. وازنت بين الدراستين لأخرج بكتاب «الثقافة وقيم الشباب». ثم شرعت في ترجمة الكتب الأخرى في العلوم التربوية والنفسية ودرّست في دبلوم التأهيل التربوي مادة التربية المقارنة والدولية، وترجمت كتاباً في التربية المقارنة وكانت تلك المواضيع جديدة آنذاك، لذا كنا نحتاج إلى الاستعانة بالكتب الأجنبية مثل كتاب منهجية البحث التربوي الذي درسته في الدراسات العليا بعدما ترجمته من الفرنسية، إلا أن معظم ترجماتي كانت من الإنكليزية لأن الكتب العلمية متوافرة فيها أكثر مثل كتاب «علم النفس الثقافي».

كم ساعة كنت تعملين يومياً لإنجاز ذلك كلّه؟

ـ كنت أعمل بين 18 و20 ساعة يومياً من دون أن أشعر بحاجة الى النوم. وكنت أنظم وقتي بدقة فأحدد موعداً لزيارة أهلي مرة في الأسبوع. وإضافة الى التأليف والترجمة والتدريس كنت خبيرة غير متفرغة في المركز السوري للتعليم العالي التابع للمنظمة العربية ألكسو وكنت رئيسة تحرير «المجلة العربية لبحوث التعليم العالي» وهذا العمل كله في حاجة الى نوع من التنظيم.

كيف تعملين راهناً؟

ـ لم يعد يحتمل جسدي جهداً كبيراً مثل الماضي، لذا لا أعمل حاليا أكثر من أربع أو خمس ساعات يومياً فأشتغل على مراحل وأرتاح معظم الوقت فأتابع التلفزيون أو أشاهد فيلماً، لكنني مازلت أقرأ كثيراً واستمرّ في التأليف إنما بوتيرة أقل، وأنا في صدد استكمال طباعة الأعمال الأخيرة لسليمان بعد طباعة الأجزاء الثلاثة الأولى، والجزء الرابع قيد الطباعة في وزارة الثقافة وأحضر الجزء الخامس.

ما الذي دفعك إلى نشر أعمال العيسى بعد رحيله ؟

ـ اعتبرت إنتاج سليمان جزءاً من التراث العربي وليس من تراث سورية فحسب. عندما كان يكتب قصائده القومية كانت تصل الى آخر البلاد العربية ويتناقلها الشباب في المغرب العربي واليمن وكان الجزائريون مثلا يتأثرون بها كما يتأثر السوريون وكان الشباب في ذلك الوقت يقولون. آنذاك: أخذنا الفكرة القومية من سليمان العيسى. وكان بعضهم يوفر من مصروفه الشخصي ليشتري ديوانا من دواوين العيسى.

كيف تأثرت بالفكرة القومية التي نادى بها الراحل العيسى في قصائده؟

ـ التزمت بهذا الخط القومي في مؤلفاتي وترجماتي، فعندما تناولت التربية مثلاً كان كتابي يحمل عنوان » التربية في الوطن العربي»، كذلك »علم النفس عند العرب». كانت أعمالي تخدم هذه الرسالة القومية وكنت أركز على كل ما يخدم ثقافتنا ورسالتنا القومية ومستقبل أجيالنا. اليوم أتابع ما بدأه سليمان من ترسيخ الفكر لدى الأطفال من خلال إعادة طبع مسرحيات الأطفال وكتاب «شعراؤنا»، إضافة الى أن جزءاً كبيراً من الأعمال الكاملة كان للأطفال كذلك مجموعة قصص الأطفال.

ماذا أضافت لك تجربتك خلال إقامتك الطويلة في اليمن؟

ـ أفدت من وجودي في اليمن طوال خمسة عشر عاماً كثيراً، واكتسبت خبرة كبيرة من خلال تعرفي إلى أدباء اليمن وشبّانه ومثقفيه، وكذلك لقائي الأساتذة الجامعيين من مختلف الدول العربية. كما تواصلنا أنا وسليمان مع الكثير من الوفود التي كانت تتنقل في أرجاء الوطن العربي، علماً أن الدراسة الجامعية كانت جديدة على اليمن فشاركت في التأسيس والتخطيط ووضع المناهج في جامعة صنعاء التي لم يكن فيها نساء سواي، وعندما تركتها كان فيها خمسون امرأة. ذلك كله منحني خبرة حتى بات في وسعي إنشاء جامعة نتيجة متابعتي.

ما هو العمل الذي تعتزين به ؟

ـ أعتز برسالة الدكتوراه إذ أخذت مني جهداً ووقتاً وفتحت أمامي فرصة لأعمل على النحو الذي أريده. تناولت فيها بدايات التربية الإسلامية وكيف تكونت وكيف بدأ كل فرع من فروع العلوم، مع إحصائيات في عدد الطلبة والأساتذة وكيف تطوروا حتى أمسى الكتاب مرجعاً يفيد منه الباحثون في سورية والعالم العربي.

هل أنصفك الإعلام ؟

ـ أستطيع القول إنه أنصفني وأخذت ما يكفي، وفي بعض الأحيان كنت الملومة في التقصير إذ لم يكن وقتي يسمح لي بالتواصل كفاية مع وسائل الإعلام بسبب الأعباء الكثيرة مثل التدريس والتأليف والمشاركة في أعمال الرعاية الاجتماعية كجمعية رعاية الأحداث في حلب وجمعية المرأة العربية والعمل في مكافحة الأمية بين النساء العاملات في المصانع.

ماذا تقولين لوزارة الثقافة؟

ـ وزارة الثقافة هي الجهة التي تساعد الأدباء والكتاب أكثر من غيرها وتفتح لهم أبوابها، لكن حبذا لو تتوسع أكثر. لا أنكرأنها أنصفتنا أنا وزوجي وساعدتني في طباعة أعمال العيسى الأخيرة وهي في صدد اعادة طباعة أعماله الأولى أيضاً، وبالنسبة إلى كتبي المؤلفة والمترجمة فإنها طبعت في وزارة الثقافة وأشكرها على ذلك.

ما رأيك في الحراك الثقافي الراهن وهل هو في المستوى المطلوب؟

ـ يعجز الإنسان دوماً عن الوصول الى المستوى المطلوب الذي يستلزم ظروفاً إنسانية مواتية وكادراً كبيراً ووفرة مادية وأعتقد في ظل الظروف القائمة تقوم مؤسسات وزارة الثقافة بنشاط جيد في مجالات الفنون التشكيلية والموسيقى والمحاضرات الثقافية وتشجيع الإبداع، وأحيي القائمين على هذه الأعمال وأتمنى أن تتوافر لهم ظروف أفضل لتوسيع نشاطهم.

هل فكرت في كتابة مذكراتك؟

ـ بدأت فعلا في كتابة مذكراتي مع سليمان وألفنا كتاباً عنوانه «رحلة كفاح» بعدما طلب إلينا أن يكتب كل منا خمسين صفحة عن حياته، فصدر هذا الكتاب، وعندما أصاب المرض سليمان بدأت أكتب شيئاً من يومياتنا فأنجزت خمسة فصول وأتمنى أن أتمكن يوماً من جمع هذه المذكرات كلها مع فصول أخرى عن حياتنا المشتركة لتصبح كتاباً متكاملاً.

هل تعيدين تجربتك لو عاد بك الزمن إلى الوراء؟

ـ في ما يتعلق بالمجالين الثقافي والتربوي أعتقد أنني كنت أسير مع الظروف التي أفدت منها من دون أن أضيع أي فرصة من الفرص المتاحة، وبالتالي أنا راضية عن تجربتي.

هل لا تزال ثمة قيمة للكتاب في زمن الـ«فيسبوك»؟

ـ لا أزال أعول على الكتاب رغم انتشار التقنيات الحديثة، فالكتاب يبقى في متناول يدي، أفتحه حين أريد وأنوّع في الكتب التي أريد أن أقرأها، وهذه مكتبتي دوماً بقربي تحوي جميع الكتب التي تهمني قراءتها، أراجع منها ما قرأته. ثمة علاقة خاصة وحميمية بيني وبين الكتاب، وأذكر في هذا المجال أن زوجي أهدى مكتبتنا الى مكتبة الأسد الوطنية للإفادة منها وعندما أحسسنا بحاجتنا للكتاب بدأنا نشتري من جديد حتى تكونت هذه المكتبة التي تضم مراجع قيمة.

ما هي علاقتك بأبنائك المغتربين؟

ـ أتواصل مع أبنائي عبر «السكايب» يومياً في أوقات محددة وأتقن الحد الأدنى من استعمال وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة ولا أقول إني بارعة فيها. أدخل على «غوغل» والمواقع الإلكترونية وقريباً سأسافر لزيارتهم في كندا.

هل لديك طموحات لمشروع دراسات خاص بك مثلا؟

ـ إني حريصة على تجديد طباعة كتاباتي وتحديثها وتطويرها وتعديلها ولا أفكر بما دون ذلك.

ما هي في رأيك الخطوات لبناء سورية جديدة متجددة ؟

ـ المهم اليوم أن يشعر الجميع بأن من واجبهم أن يتحركوا ويساهم كل منهم في عمل ما، عندئذٍ يلتقي أبناء سورية وتتضافر جهودهم، فالخطوة الأولى هي أن يشعر كل مواطن بأنّه معني ببناء الوطن من جديد.

هل أنت مع العودة إلى التراث والجذور؟

ـ أرى أن المعركة الثقافية ينبغي أن تسير بالتوازي مع المعركة العسكرية والسياسية، لما للثقافة من أهمية كبيرة. ومن واجب الجميع الانخراط فيها. رغم تقدمي في العمر ما زلت اسعى الى خدمة المجتمع، وهذا يجب ألاّ يتوقف في حالة الحرب كي يكون الجميع على وعي تام بمشاكل بلادهم الحالية وكيفية التغلب عليها، فأي جهد يبذله الإنسان للمشاركة والإبداع من شأنه أن يساعد في الانتصار في المعركة. الثقافة جزء من مواجهة الأزمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى