الحوض الرابع… مشهد من مأساة
نسيب أبو ضرغم
راصد مسار الدولة اللبنانية، بل الجمهورية اللبنانية، منذ الاستقلال على الأقل، يتحصل لديه أن هذا المسار يتصف بالتأزم، فالمأزومية باتت صفة بنيوية في جسم الدولة اللبنانية في مؤسساتها كافة.
لدقة الموضوع، لا بد من الإشارة إلى أن خطورة هذه الصفة، أي صفة المأزومية، لا تكمن في كونها تمثل أزمة فحسب، بل في كونها تمثل أزمة طوائف ومذاهب أرادوا لها أن تكون المناخ المناسب لإمرار جميع المؤامرات والمشاريع، وليس الحوض الرابع خارجاً على القاعدة المشار إليها أعلاه، بل بات موضوعه يمثل روح هذه المأزومية الطائفية، لا لأنه هو كذلك في موضوعه، بل لأن حرّاس الصيغة «الطوائفية» ومقاوليها أرادوا أن يوظفوا الموضوع في الدائرة ذاتها التي اعتادوا أن يوظفوا فيها مختلف القضايا الوطنية بعد مسخها وجعلها ألغاماً في النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي اللبناني.
بني الحوض الرابع استناداً إلى المرسوم الجمهوري رقم 1996/9040 الذي أعطى إدارة المرفأ حق إجراء التوسعة شرقاً حتى مصب نهر بيروت، وينص المرسوم عينه على إنشاء الحوضين الرابع والخامس.
ما حصل أن لجنة إدارة المرفأ لزمت توسيعه خلال آذار 2012 بطريقة التراضي مع شركة «حورية» لتنفيذ أعمال ردم الحوض الرابع، من دون أن تتم عملية التلزيم بالمناقصة على ما ينص القانون، وقدرت كلفة الردم بـ130 مليون دولار أميركي، في حين تشير دراسات إلى أن الكلفة الحقيقية لا تزيد على أربعين مليون دولار. فإلى أين تذهب الملايين التسعون الباقية؟!
ليس هذا مشهد المأساة، على بشاعته، بل هو في تبرير ردم الحوض الرابع لإقامة حوض مماثل في مرفأ طرابلس!
تصوروا مدى الاستخفاف بعقول اللبنانيين: تكلف الخزينة 130 مليون دولار لتردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت وهو الحوض الأعمق في منطق الشرق الأوسط. ندفع هذا المبلغ لردم حوض جاهز، ونعود لنكلف الخزينة مبلغاً مضاعفاً لبناء حوض مماثل في طرابلس. لكأنه كثير على لبنان أن يمتلك حوضين مهمين مثل الحوض الرابع.
أما الوجه الأكثر بشاعة مما سبق فهو اعتبار الحوض الرابع في بيروت حوضاً للمسيحيين والحوض المزمع إنشاؤه في مرفأ طرابلس للمسلمين. هنا تكمن الفاجعة، واللافت في ارتياب كبير هو أداء الإعلام في هذا الموضوع، فنرى إعلامنا الفذ مكرّساً الصفة المذهبية للمدافعين عن الحوض الرابع، في حين لم تكن الأحزاب المسيحية وحدها التي تدافع عن الحوض الرابع. كان هناك الحزب السوري القومي الاجتماعي وسواه من النقابات والهيئات الأهلية والحزبية غير الطائفية، فلماذا التركيز على الأحزاب المسيحية فحسب؟!
مصيبتنا أكبر من مأزومية سياسية. مصيبتنا أن مجاميع لبنانية وازنة سواء في السياسة أو الإعلام أو في الاجتماع، استعذبت لعبة التأجيج الطائفي وباتت لا تتقن سواها.
السؤال الذي يطرح نفسه؟
إذا جرى تعطيل أعمق حوض في الشرق الأوسط وقد ردم نحو نصف العمق تقريباً حتى الآن، بحسب كلام خبراء قيل على شاشات التلفزيون ، وإذا تمّ التعطيل وخسر لبنان من جرائه 54 من حركة الصادرات اللبنانية، إضافة إلى امتناع البواخر الكبيرة عن الرسوّ في مرفأ بيروت، إضافة إلى خسارة مزايا أخرى… إذا حصل ذلك هل يضمن أحد إنشاء حوض مماثل في طرابلس؟! مسكينة طرابلس! سوف تتم المتاجرة بها من جديد، كما حصل في السابق، ودليلنا على ذلك قدرة الغيارى على طرابلس أن يباشروا بالسرعة ذاتها التي باشروا بها في تلزيم ردم الحوض الرابع، إلى بناء حوض مماثل في طرابلس ليس على حساب مرفأ بيروت ولا على حساب الخزينة اللبنانية.
الفاجعة ليست هنا. الفاجعة غداً، عندما يبدأ الكلام على أن معارضة المسيحيين هي التي حرمتكم يا أهل طرابلس من الحوض الجديد، وتصبح القضية «مسيحيون ومسلمون في خصام»، وحوض بلعه البحر، وحوض ذهب مع الريح. وكفى بذلك لبنان شر الأحواض المؤهلة القادرة على المنافسة.
مسكينة طرابلس، هل التلويح ببناء حوض في مرفأها حبة مسكنة لأوجاعها التاريخية الناتجة من حرمانها التاريخي. مصفاتها ومعرضها أصبحا في ذاكرة الماضي البعيد ولماذا يشترطون لبناء حوض فيها أن يطمر حوض آخر في عاصمة لبنان؟!
هل اطلع ديوان المحاسبة على صفقة التراضي؟ بمعنى هل يجوز أن تتم مثل هذه الصفقة بالتراضي؟!
لماذا تحييد طرح موضوع الحوض الرابع على طاولة مجلس الوزراء؟
مشهد من الدراما اللبنانية يعبر الآن على مسرح الفجور اللبناني، مشهد مُثْقل بالأسئلة والأوجاع واليأس، يمضي لينضم إلى ما سبقه في تاريخ هذه الجمهورية المأزومة.
بلى، غداً يهوي الحوض الرابع إلى عمق 14 متراً، وإلى الأبد، وسوف تمر أيام وسنون والطرابلسيون ينتظرون حوضهم الموعود! فلينضم الحوض إلى الثنائي المنكوب، المعرض والمصفاة، وتعود طرابلس Tripoli لتتناغم مع ثلاثي المأساة.
نتمنى من أعماق جوارحنا، ألاّ يكون ما يجول في بالنا والذي أنتجته عقولنا من مقاربة الحوض الرابع… صحيحاً.