للماضي حقّ في الذاكرة ولضحايا المجازر المرتكبة ذات لحظة من جنون التاريخ
د. أدمير كورية
تنقلنا رواية «وداعا ياماردين» منشورات دار الفرات وبترا، دمشق/بيروت، 2009 للروائية السورية هنرييت عبودي الى بداية القرن العشرين، وتحديداً إلى عام 1915 زمن ارتكبت السلطات العثمانية مجازر ضدّ الارمن والسريان واليونان. غير أن الروائية، بحكم علاقتها الوثيقة بالسريان الذين نزحوا الى حلب ومعايشتها اليومية لما عانوا من ويلات المجزرة، يتناول جزء كبير من روايتها حوادث القتل والنفي والتشريد الجمعي للسريان في ولايات الأنضول الشرقية، وينصب الجزء الآخرينصب على الفترة التي استقروا فيها في حلب حيث اختبروا الأمان والاستقرار.
تذكر الكاتبة في مقدمة الرواية أنّ المآسي التي اختبرتها أمها وعمتها في ماردين حضّتها على كتابة هذه الرواية، ثم تشير الى دافع آخر: «ثمة اعتبار آخر دفعني الى محاولة إعادة إحياء أجواء وحوادث لم أكن بالطبع شاهدة عليها: شعوري بأن للماضي حق الحضور في ذاكرتنا، وبأن علينا واجب السهر عليه. فمن الظلم أن تكون آلاف مؤلفة من الضحايا البريئة قد قضت في لحظة من لحظات جنون التاريخ من دون أن تجد من يرثيها ويروي فاجعتها». فالرواية تحضّ على دراسة الدوافع التي تؤدي الى مثل هذه المآسي بغية تجنبها حاضراً ومستقبلاً.
أما شكل الرواية وبنيتها العامة فهي أقرب الى الرواية التاريخية من حيث تركيزها على فترة تاريخية محددة، المجزرة السريانية لعام 1915، وتناولها أشخاصاً واقعيين معروفين، أو شخوصاً من صنع الخيال. رواية تاريخية تتراوح حوادثها بين العام والخاص، العام عبارة عن تقارير تصف الطرائق التي تمت بها تصفية ألوف مؤلفة من الأبرياء السريان وتشتيتهم لمجرد انهم ينتمون الى دين مختلف عن دين الآخر. أما الجزء الخاص فيتناول السريان الذين نزحوا الى حلب، خاصة عائلة مسعود وهي عائلة سريانية عريقة لها مكانتها الاجتماعية والاقتصادية في ماردين ويكن لها المسيحيون والمسلمون الأتراك احتراماً كبيراً. أما الفضاء الروائي فينقسم أيضاً الى جزءين، جزء يمثل الجرائم الجماعية التي ارتكبها النظام العثماني في حق السريان شرق الأنضول، وجزء آخر يقع في مدينة حلب التي لجأ إليها السريان واستقروا فيها. هذا الانتقال من فضاء الى آخر يؤدي الى تحولات جذرية في رؤية الشخوص الروائية لذاتها ولماضيها وحاضرها ومستقبلها.
عقدة الرواية، أي البعد الإبداعي الذي ليس بالضرورة صورة فوتوغرافية للواقع، تتكون من حوادث متشعبة يربطها بعضها ببعض موتيف مأسوي، وفضاؤها الأساسي هو مدينة حلب حيث ينشب صراع بين جيلين، جيل الراشدين الذين يلحون على العودة الى ماردين وجيل الفتيان الذين يصرّون على الانصهار في المجتمع السوري. لذا نستطيع القول إن «وداعا يا ماردين» تُعنى بالإضافة الى تأريخها لمأساة السريان، ببديهية التحول. فخلال فترة قصيرة تمكنت عائلة مسعود من إقامة جسور بينها وبين البيئة السورية، ولا سيما حين علمت أن المسيحيين والمسلمين السوريين تجاوزوا الحواجز الإثنية والدينية واتحدوا في مقاومة العثمانيين لنيل استقلالهم القومي والسياسي. كما يلعب المثقف دوراً كبيراً في عملية التحول هذه، إذ نجد يوسف، الشاب من عائلة مسعود والذي يعمل في حلب محاولاً إقناع الكبار في عائلته بأن سورية هي امتداد لماردين وأنهم الآن في أرضهم: «نحن من هذه الأرض. إن جذورنا فيها تعود إلى ما قبل الميلاد، فكيف يهون علينا اقتلاعها؟» يؤكد يوسف أيضاً على أوجه الشبه بين ماردين وحلب قائلاً: «حلب هي على شاكلة ماردين أيام زمان إنها مدينة متسامحة يتعايش فيها الناس على اختلاف هوياتهم وأديانهم وطوائفهم. في تربتها الخصبة سوف نرسي جذوراً جديدة لنا، فنعطيها وتعطينا». بهذا الوعي والانفتاح تمكن يوسف وآخرون من تبديد على شعورهم بالاغتراب.
رغم الأجواء المأسوية ومشاهد الإبادة الجماعية التي تعرض لها السريان والأرمن بسبب التعصب الديني والعنصري لدى العثمانيين، ثمة مشاهد في رواية «وداعاً يا ماردين» تؤكد على أن الإنسان، بصرف النظر عن جنسه ودينه، قادر على أن يتحرر من قيود المؤسسات السياسية والدينية والعنصرية والطائفية لينفتح بتجرد ومحبة على الآخر، وهذا الانفتاح يصدرعن شعور الإنسان بأن إنسانيته هي قاسم فطري مشترك بينه وبين الآخر. التوكيد على إنسانية الإنسان يتجلى واضحا في الرواية. مثلاً: عندما تصدر أوامر من السلطة العثمانية الى مسؤول إداري عثماني في بلدة ديريك السورية، وسكانها هم مسيحيون ومسلمون، بقتل سكانها المسيحيين، يرفض المسؤول تنفيذ أوامر حكومته، مؤكدا على أن «المسيحيين والمسلمين في هذه البلدة قد عاشوا في انسجام تام». الشيخ مصطفى حمدان الذي يدافع عن حرية الإنسان والتعددية والتسامح مثال آخر عن عثماني مسلم وقف مدافعاً عن المسيحيين في ماردين. تحوي الرواية شخوصاً عثمانية أخرى ترفض القتل على الهوية أو تستنكر ما يحصل لسريان شرق الأنضول.
صحيح أن هنرييت عبودي تستوحي التاريخ وتستخدم مادته ، لا سيما ما يتعلق بالمجزرة السريانية، إلاّ أن رؤيتها الروائية للمادة التاريخية، وبخاصة رسمها الشخوص الرئيسية اجتماعياً وثقافياً ونفسياً، تنمّ عن معرفة عميقة وشاملة للبيئة الثقافية السريانية، إذ تتجلى موتيفات سريانية ماردينية عديدة في حوارات شخوصها الروائية، خاصة في ما يتعلق بالنكتة والفكاهة والسخرية والغناء. حتى المطبخ السرياني المعروف بغنى أطباق الطعام والحلوى المختلفة وتنوّعها يحتل حيزاً في أحاديث شخوص الرواية. تستخدم عبودي هذه الموتيفات لتحديد الخلفية الإثنية والثقافية لشخوص الرواية، وتعميق واقعيتها، والحدّ من أحادية الهيمنة المأسوية على أجواء الرواية.
لا يسعنا سرد خاتمة الرواية فالمؤلفة تركت هذه الملاحظة: «سيتابع أبطال هذه الرواية حياتهم في جزء تال». وهذا يعني أن النهاية مفتوحة على احتمالات عديدة، ونأمل أن تكون هنرييت عبودي قد انتهت من الجزء الثاني الذي سيكون تتويجاً لروايتها «وداعاً يا ماردين» التي هي بامتياز أول وأروع عمل أدبي عن المجزرة السريانية.
باحث سوري مقيم في الولايات المتحدة.