بومضة خاطفة نفخ موزار حياةً في النغمات

جورج كعدي

آمن الجميع على الدوام بأنّ الموسيقيّ النمسويّ الخالد موزار أو موتسارت، واسمه الأصليّ فولفغانغ أماديوس وعاش عمراً قصيراً بين 1756 و1791 كان طفلاً عبقريّاً، بل كان مثال العبقريّ الذي لا بدّ من أن مواهبه فاقت مواهب البشر، فكلّ شيء في موسيقاه يبدو منجزاً «في غمضة عين»، والقصّة المشهورة عنه طفلاً أنّه دوّن النوطة الموسيقيّة الكاملة للمزمور الخمسين من مقام الأليغرو Allegri Miserere بعد الاستماع إليها مرّة واحدة، فهل يمكن أن تكون مجرّد ذاكرة سماع قويّة تعمل عقلانيّاً من غير اتقان؟ أليست اوّلاً تجربة آنيّة وحسّية مثل انفجار نغمة مفاجئة من بوق كانت تصيب موزار الطفل بالإغماء ؟

شُبّه موزار في عصره بالملاك، ليس لأنّه كان ممتلئاً بالنعمة السمويّة الخارقة – لم يشعر بنفسه ممتلئاً بشيء من ذلك – بل لأنّ إنسانيّته تحقّقت كاملةً في الأصوات التي ابتدعها، أو استدعاها، ونفخ فيها الحياة. وليست مصادفةً أن يتأرجح بين الكلاسيكيّة والرومانسيّة، فدماغه الإعجازيّ يعمل موسيقيّاً بالحدس، مثل الطفل الحكيم والبدائيّ لدى روسّو. يتفاعل الخيال والعقل والبراءة والتجربة لديه، «تتعاون» بحسب تعبير بليك معاصر موزار.

القول الشائع بأنّ عشرة في المئة من العبقريّة إلهام وتسعين في المئة منها جهد هو قول ينطوي على قدر من الحقيقة. ربّما أنجز موزار مؤلّفاته في ومضة خاطفة، إلاّ أنّ الجهد الشاق والصراع النفسيّ العنيف جعلا الأمر ممكناً. يقرّ هو نفسه بذلك في كلامه عن مجموعة الرباعيّات الوتريّة التي أهداها لهايدن. والوضع ذاته ينطبق على بيتهوفن بدرجة أوضح، فمخطوطات مدوّناته الموسيقيّة، على عكس جهود موزار المتّسمة بالتلقائيّة أو بعدم وجود أثر للجهد، تكشف عن عذاب باطنيّ يظهر في الشطب القاسي والتعديلات الغاضبة المهتاجة والتصويبات العنيفة.

رأى غوته، وكان أعظم شعراء العصر مثلما كان بيتهوفن أبرز مؤلّفيه الموسيقيّين، أنّ قوانين الطبيعة وقوانين النفس البشريّة متّصلة اتّصالاً وثيقاً، إن لم تكن متطابقة. تلك النظرة «المورفولوجيّة» عن النموّ البشريّ والإبداع الفنّي تظهر في أسلوب عمل بيتهوفن الذي كتب إلى الكونت برونشفيك عام 1814 قائلاً: «إنّ عالمي في الهواء، فمثلما تدوّم الريح كثيراً، كذلك تدوّم الأصوات، وتدوّم في نفسي أيضاً». قد تُنتزع أفكاره الموسيقيّة في الأثير، وتُلتقط في الغابات، في سكون الليل، فلا تتيح له أن يهدأ ويرتاح لأنّها أصوات «تهدر وتحتدم عندما تتحوّل إلى نغمات موسيقيّة، حتى تتمثّل أمامي أخيراً في صورة نوطات» بحسب تعبيره. ولو تأمّلنا في اللحن الختاميّ الذي وضعه بيتهوفن للحركة الأولى في المقطوعة الثالثة من آخر سوناتا كتبها للبيانو الرقم 111 لأمكننا القول إنّ بيتهوفن ما كان ليستطيع إنجاز ذاك التحويل الساحر للعاصفة إلى موسيقى إلاّ من خلال الصراع المحتدم داخل نفسه، علماً أنّ ما تولّد في الموسيقى شيء آخر مختلف، أعظم من العقل المبدع. في ذاك المقطع الختاميّ عينه تحمل الحركة الموسيقية معنى حرّية التطلّع إلى المستقبل وضرورة العودة إلى الماضي.

يقول بيتهوفن: «تهبنا الموسيقى مشاعر الأمل والتوقّع، وتوحي لنا معارف سمويّة. الجزء الذي يدركه العقل منها عن طريق الحواس هو تجسيد للمعرفة العقليّة. ورغم أن العقل يحيا بها مثلما نحيا من الهواء فإنها أمر مختلف نعجز عن إدراكه بالعقل. ومع ذلك، كلّما تزوّدت النفس غذاء الموسيقى ازداد استعداد العقل للتعاطف السعيد معها. بيد أنّ قلّة تستطيع بلوغ هذه الدرجة، فمثلما يتزوّج ألوف البشر لأجل الحبّ ولا يتجلّى الحبّ قطّ لهم، رغم أنّهم يمارسون جميعاً فنون الحبّ، هكذا يتعامل ألوف البشر مع الموسيقى من غير أن تتجلّى لهم … إن كلّ ابتكار حقيقيّ هو تقدّم أخلاقيّ … إن الفنّ يمثّل دوماً القوّة المقدّسة، والعلاقة التي تربط الناس بالفنّ هي الدين، فما نحصل عليه من خلال الفنّ يأتي من الله، وهو إلهام سمويّ يحدّد هدفاً للملكات والقدرات البشرية، هدفاً نستطيع بلوغه»… يتبع

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى