أيّ معنى جوهريّ للسعادة؟

آمنة حسين حافضة

كلمة السعادة من الكلمات التي اختلف الناس حولها فالبعض يراها قرينةً اللذة أو الراحة أو المال أو المنصب أو الشّهرة وسواها من المفاهيم. ويفني كثر حياتهم في دروب شتى بحثًا عن السعادة، وليس في إمكان أحد أن ينكر أنّ السعادة شعور ينبع من داخل النفس، حين نشعر بالرضى والغبطة والطمأنينة والأريحية والبهجة. ولكنّ نظرات الناس إلى السعادة تختلف باختلاف طبائعهم واهتماماتهم وتطلعاتهم وحتى مجتمعاتهم، فبعضهم يراها في المال أو السكن أو الجاه أو الصحة، وآخرون يرونها في الزوجة أو الأولاد أو العمل أو الدراسة، وربما يراها آخرون في القرب من الحبيب أو في التخلص مما يزعجهم، أو في التبتل الروحي أو المساعدة وتقديم العون إلى الآخرين. لكن ما يثير الدهشة أنّنا عندما نسأل كثيراً من هؤلاء : هل أنتم سعداء حقًّا وصدقًا؟ تكون الإجابة بالنفي!

إذن، تختلف تعريفات السعادة من إنسان إلى آخر ومن مجتمع إلى سواه.

هل السعادة حكر لشعب دون سواه؟ وهل هي أكثر بروزاً في البلدان الكبرى أو الغنيّة أو المسيطرة؟!

كلا، بالطبع، فالسعادة لا تتّبع قوانيننا الزائفة، وليست بحسب رغباتنا وتقديراتنا.

لنلقِ نظرةً إلى الإشكاليّة حول ماهية السعادة وكيفيّة تحصيلها لدى كثير ممن عرّفوها، فأفلاطون اعتبر أن السعادة هي فضائل النفس أي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، واعتبر أنّ الإنسان لا يحقّق السعادة الكاملة إلا بعودة روحه إلى العالم الآخر. أما أرسطو فاعتبر السعادة هبة من الله، وتتكوّن من خمسة أبعاد هي: صحة البدن وسلامة الحواس، والحصول على الثروة وحسن استخدامها، والنجاح في العمل وتحقيق الطموحات، وسلامة العقل وصحة الاعتقاد، والسمعة الطيبة ونيل الاستحسان من الناس.

أما في علم النفس فيسعنا أن نفهم السعادة بوصفها انعكاسًا لدرجة الرضى عن الحياة، أو بوصفها انعكاسًا لمعدلات تكرار حدوث الانفعالات السارة. ويبقى السّؤال قائمًا حيال هذا الاختلاف في مفهوم السعادة، وكيف يمكن أن نكون سعداء؟ وهل تكمن السعادة في مجرد تحقيق اللذة؟

كثيرًا ما ينساق شخص خلف اللّذائذ المتعدّدة، فلا يترك لذةً إلا ويختبرها ويظن أنّه لو حصّل ما يحلو له من ألوان اللذائذ لحصل على السعادة، لكنّه يفاجأ بأنه أبعد ما يكون عنها، فلذائذ الدنيا متنوّعة ومتعدّدة ومتغيرة الشكل والوصف، وليست كل لذّة سعادة كثيراً ما نخلط بين مفهوم السعادة ومفهوم اللذة، والصحيح أنّهما يجتمعان من ناحية ويفترقان من ناحية أخرى يجتمعان في كون كلّ منهما يُدخل السرور إلى النفس، لكنهما يفترقان كثيراً، والفرق بينهما أنّ اللّذة تُقطف قطفًا وتذهب نشوتها لمجرّد الانتهاء من سببها، وربما حصلت بعدها ندامة وتعاسة ما بعدها تعاسة، أما السعادة فتظل ترافق صاحبها فترة ليست بقليلة.

هذان الخلط والرّبط بين مفهوم السعادة ومفهوم اللذة يحصل أحيانًا بالتباس من الشخص نفسِه، معتقداًكلَّ لذة سعادة، فالشهرة لذّة ليس بعدها لذّة ، وحين يكون الشّخص مشهورًا ومعروفاً بين الناس، ويقدّمونه في المجالس ويمدحون إنتاجه فإن في ذلك نوعاً من اللذة،. لكنّ كم من صاحب شهرة ومال ومنصب وجمال نراه مع ذلك كله كئيبًا تعيسًا ويتابع علاجاً لدى الأطباء النفسيين، وقد تُختم حياته بالانتحار لينهي همه وغمه وتعاسته وكدره! وكم سمعنا عن المشاهير الذين ختموا حياتهم بالانتحار ليتخلصوا من التعاسة التّي سادتها وأشقت أيامهم! كثيراً ما نجد من أغرق نفسه في المتع الجنسية والانتقال من واحدة إلى أخرى، فلو سألت عنه بعد ذلك لوجدته صريع المريض، الإيدز أو سواه! فالعلاقات المحرّمة قد يجدها البعض لذيذة، لكنه ينسى أنّ فيها خراباً للأسر وهدماً للمجتمعات واختلاطاً للأنساب وعهتكاً للروابط المقدسة واعتداء صارخاً على عفة المجتمع وحصانته. ومن اللذائذ الأخرى الطعام فنجد من يحرص على الطعام حرصه على العبادة أو أشد، ثم تجده نراه نزيلاً في المستشفيات ولدى الأطباء!

في زماننا هذا، كثيراً ما نصادف هذا اللبس بين مفهومي السعادة واللذة فكثير من الجهات تحاول أن تسوّق اللذات المختلفة على أنّها عين السعادة وجوهرها، والهدف من ذلك السيطرة على العقول وتحريكها في اتجاهات مختلفة. وكم من شاب أقدم على تناول المخدرات في البداية بسبب اللذة المتوافرة فيها، ليتحول من ثمّ دُمية في يد من يموّله ويروّجها له!

كذلك الإعلانات التَّي تُسوِّق للسّلع المختلفة تحر أعين الناس بسلعها المعلنة فلا نجدهم إلاّ في الأسواق باحثين عن سلعة أو عرض جديد!

السعادة ليست إذن في أن يتوافر للإنسان كل ما يريد! وإلاّ لكان أسعد الناس الأغنياء والرؤساء والمشاهير ، بَيْدَ أنَّ الدّراسات العلمية والمشاهدة الواقعية تنفي ذلك، وهذا بلا ريب فيه من تمام عدل الله في هذا الكون.

لو تأمّلنا مليّاً لرأينا أنّ السعادة الحقّ تكمن في الرّاحة والسّكينة. وقد يظن البعض أنّ الراحة تعني السعادة فيسعى إلى راحة ربما تجلب له كثيراً من الهم والغم والوحدة والشقاء، وينسى أنه كثيرًا ما يشعر بالسعادة وهو يُتعب جسده، بل قد تكون المشقة هي عين السعادة وجوهرها أحيانًا، فلو وجدنا أنفسنا مضطّرين إلى إلقاء أنفسنا في بئر لإنقاذ طفل فيها لشعرنا بالسعادة رغم الجروح والآلام التي نعانيها جراء نزولنا في البئر. ولو تأمّلنا حجم المشقة التي يكابدها العلماء وطلاب العلم أثناء تحصيلهم العلمي، لوجدنا تلك المشقّة تضفي عليهم السعادة وترفعهم إلى مراتب عالية من النشوة، رغم ما يعانونه من مشاق كبيرة. كذلك نرى الرياضي يسعد برياضته رغم تصبب العرق من جسده. أيضاً مَنْ يسعى في خدمة الضعفاء والمحتاجين ويسعد بذلك رغم بذله وتعبه، والذي ينفق مالاً للفقراء والمساكين. يبذل الإنسان من راحته وما يحب كي يجد السعادة في نفسه.

نتيجة هذه التداخلات والرؤى المختلفة والتعريفات المتنوعة للسعادة، يبقى الإنسان حائرًا في ظل بحثه الدؤوب عن معنى السعادة الحقيقية وكيفية تحصيلها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى