المتنبّي في رحلته مع الذات… الإرادة والعزيمة الصلبة على طريق المجد
كتب محمود محمد أسد ميدل ايست أونلاين :
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ يجدْ مرَّاً بهِ الماءَ الزلالا
إنَّ العمالقة في تاريخ أدبنا العربي معدودون، ويقف في مقدمهم المتنبي شامخ الرأس يُشارُ إليه بالبنان . ما تراه السرُّ وراءَ هذه العبقرية؟ وما مكوِّناتُها العامة والخاصة؟
كلُّ ما يُعْرف عن المتنبي تلك الولادةُ البائسةُ في أسرةٍ فقيرة، نشأ فيها وترعْرَعَ حول الفقر من دون أن ينقطع رجاءُ الأملِ والطموح، فإذا به يحمِلُ على كتفه همومَ الواقع المرِّ ويأمَلُ بالهدفِ المنشودِ. يحدوه الأمل وتحيط به إرادةٌ وعزيمة صُلْبة.
إنَّ سرَّ مكانة المتنبي يكمن في تلك الروح الوثابة والنفس الأبية التي رضعتِ العظمةَ وحبَّ المجد، وسَعَتْ إلى الرفعةِ، فوجدت ضالَّتها في شخص سيف الدولة الحمداني حامي حصون العرب ودافع كيد الروم. فالدخول إلى عالم المتنبي بحرٌ متلاطِمُ الأمواج عميق الأغوار، لا نستطيع الغورَ فيه إلا بمعرفة أسرارِ شعره والتعمُّقِ في معانيه وفهم المرادِ منه. فأشعاره ترسم صورةً عن شخصيته وتبرز حكمته وموقفه من الحياة والناس. الشعر مرآة قائله ومرآةٌ عصره. يرسم شعر المتنبي أبعادَ شخصيته، وهذا ما يهمُّنا ونسعى إليه. لا تُخْفى حقيقةُ أن شخصية المتنبي كإنسان وسلوكٍ، وحكمَته متلاحمتان بلا انفصام. فنادراً ما نجد بيتاً من حكمه لا يدلَّ على سلوكه الشخصي ومبادئه في الحياة.
رسم المتنبي أبعادَ شخصيته من خلال معايشته الناس وخبرته في الحياة. فإذا به يستنبط نظراتٍ ومواقفَ خاصةً. أليس هو القائلُ في مَنْ تطبَّعَ على الأذى والكره:
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ يجدْ مرَّاً بهِ الماءَ الزلالا
وهو القائل عن مصائب الدنيا وتقلباتها المفاجئة على الإنسان:
ومن صَحِبَ الدنيا طويلاً تقلَّبتْ على عينه حتى يرى صدقَها كذبا
إنها نظرة الحكيم والمجرِّبِ. خبرَ الحياةَ وكشف سرَّها إذ قلبَتْ سعادته في بلاط سيف الدولة إلى شقاء بعدما ترك بلاطه، وخرج حزيناً من دون أن يفقد كرامته، وهذا أغلى ما يملكه المتنبي ويدافع عنه:
إذا كنتَ ترضى أن تعيش بذلَّةٍ فلا تَسْعِدنَّ الحسامَ اليمانيا
لله ما أحكم هذا الإنسان! لسانُهُ متصل بعقله، وحواسُهُ متصلة بالرؤية الصادقة للحياة التي لا تلين إلاَّ لقوي، ولا تخضع إلاَّ لشجاعٍ مؤمن بهدفهِ:
ومن طلبَ الفتح الجليلَ فإنّما مفاتيحُهُ البيض الخفافُ الصوارم
تلك نظرةُ المتنبي إلى الحياة وطريقه للمجدِ المرسوم أمام عينيه. لا يفارقه لحظة، ما ترك خصومه يقلقونه ويتَتَبَّعونَهُ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وهو لا ينظر إليهم ولا يكترثُ بهم. كانت علاقته مع الناسِ محوطة بالحذر والجدِّيَّة. لم يعرفُ سوى طريق واحد للمجدِ، طريقِ البطولةِ والرجولةِ لا طريق اللهو والمجون:
ولا تحسبَنَّ المجدَ زقاًّ وقينةً فما المجد إلاّ السيف والفتكةُ البكرُ
وهو القائل:
على قدر أهلِ العزم تأتي العزائم وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارِم
المعادلة واضحةٌ وجليَّةٌ لديه. طريق المجد مصحوب بالعزيمة، وسبيلُ السؤددِ عملٌ ودأبٌ من دون مللٍ وتجنُّبٍ للموبقات. مَنْ أخذ بهذهِ المعادلة وصل إلى المجد والسيادة. إنه قاسٍ على نفسه، فلا تهاون ولا تخاذل. علاقته مع المرأة لم تأخذِ القسطَ الأعظمَ من حياته بل حدَّدَ علاقته بشرطٍ من غير أن يتقاعَسَ عن واجبه وينسى حقوقه وطموحاتِه:
وللخودِ منِّي ساعةٌ ثمَّ بيننا فلاةٌ إلى غيرِ اللقاءِ تُجابُ
وما العشق إلَّا غرَّةٌ وطماعةٌ يُعرِّضُ قلبٌ نَفْسَهُ فتصابُ
هل كان المتنبي ضعيف الصلة بالنساء؟ هل كانت له نظرةٌ معيَّنَةٌ لعلاقته بهنَّ؟
يرغب المتنبي في ذلك كسواه من الرجال، ولكنه لا يستطيعُ حيال صورةِ المجدِ والطموحِ وتلك النفس التي لا تعرف التنازلات والتهاون. إنه يملك من العظمة والإباء ما لا نجدهما لدى آخرين. تلك العظمة ونظرةُ الاستعلاء على الآخرين ألّبت الخصوم والأعداء ضدّه. فتعرَّضوا له في كلِّ مجلس في حياته، وبعد رحيله ومماته، حتى دعي بـ»مالئ الدنيا وشاغلَ الناس» فالاعتزاز في شعره يكثر ويتلون فَيَمْنَحُنا صورةً عن نفسه وعن طباعه. إنه كاتم للأسرار وجوَّاب آفاق.
شعر المتنبي نهرٌ متدفِّقٌ لا ينضب عطاؤه، وهذا سرُّ خلوده كأنه بيننا وقد أعدَّ عُدَّتَهُ للسفر والترحال خلف المجد والشهرة ولسان شعره يقول: هاتوا شاعراً نسجَ شعرَهُ فلسفةً وسلوكاً وحياةً وخلودا:
أيــن فـضلي إذا قنعتُ من الدهرِ بـعـيشٍ مُـعَجَّل الـتنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرز ق قـيامي وقلَّ عنه قعودي
أبــداً أقـطع الـبـلادَ ونـجمي في نحوسٍ وهمَّتي في سعود
عشْ عزيزاً أو متْ وأنـت كريمٌ بـين طعن القنا وخفق البنودِ
إنه لون من نسيج المتنبي يجمع الغربة والعِفَّةَ والإباء والتحدي خلال معركةِ إثباتِ الذاتِ في معركة الحياة الصاخبة. تعلو نبرة صوته معِّبرةً عن خلجاتِ نفسه وعن بوح أحاسيسه:
فاطلبِ العزَّ في لظىً وذرِ الذلَّ ولو كان في جنانِ الخلودٍ
لا بقومي شرفْتُ بل شرفوا بي وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
لم يعد خافياً على أحدٍ موقفُ المتنبي من الحياةِ ومن الناسِ، فهو لا يعرف إلا السعي نحو هدف رسمه لنفسه معتمداً على ذاته، تحدوه إليه نفسٌ مُتَفَرِّدةٌ بنسيجها وتكوينها في عصرٍ ذابت فيه النفوس واضمَحلَّتِ الأهواء. صوت المتنبي لا يزال يطرق مسامِعَنا وبعنف، علَّهُ يجد فينا ما تمنَّاهُ لنفسه. فماذا ترك المتنبي للأمراءِ والملوك وأولي الشأن؟ وهل هم أقلَّ شأناً منه؟:
الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هنا تبرز عظمة المتنبي. أعتقد أنه كان مصاباً بداء العظمة والشهرة التي لطالما سعى إليها وأحبَّ أن يوجدَها ويزرعها في حياته. ها هو يفتخر بنفسه معتزَّاً وناسياً دورَ قبيلته وحقَّ له ذلك طالما أنَّهُ وضيعُ النشأةِ والحسب. غير أنه استطاع أن ينسج لنفسه ثوباً عفيفاً مطرَّزاً بالعزِّ والفخار تصدر منه إشعاعاتٌ ساطعة توخز أولئك الناس الذين حاولوا الطعن به والتقليل من شأنه ومكانته:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ
كذلك قوله الرائع
أنا ترب الندى وربُّ القوافي وسمامُ العدا وغيظُ الحسودِ
أنـا في أمةٍ تـداركها الله غريبٌ كصالحٍ في ثـمود
إنَّها صيحة الاغتراب والإحساس بالغربة أينما ذهب وحلَّ وارتحل. غريبٌ بتصرُّفاته وعلاقاته مع الناس والأهل والأنسباء. كم نهتزُّ طرباً أمام عمق هذه الأبيات! وكم نفتخر بمثل هذه الشخصية العربية التي التزمَتْ بمقومات الشباب من فتوة وحكمة وقوة مهما كبر السنُّ وظهر الشيبُّ في مفرقِ الرأسِ:
وفي الجسم نفسٌ لا تشيب بشيبه ولو أنَّ في الوجه منه حراب
لا يستريح لهدف، ولا يهدأ له بال من دون أن يسعى ويكدَّ وراءَ المجدِ الشريف الذي يُؤْخذُ ولا يعطى:
ولا يدرك المجدَ إلاّ سيِّدٌ فطِنٌ لما يشقُّ على الساداتِ فعَّالُ
لا أديب في العربية على مرِّ الزمان تعرَّضت له الدراسات الأدبية والنقدية بالدراسة والنقد مثل المتنبي. ولا تزال الدراسات متواصلة أمام شخصية، متجسِّدةً في الحاضر والماضي وأمام أدبٍ وشعرٍ خالدٍ لا يفقد قيمته بموت قائله أو بانتهاء عصره. هذا سرُّ خلودِ الأدب والأديب. كأنَّ المتنبي استكشف خفايا النفس الإنسانية حتى القيامة. لِيسمَعْ بعض حكمه التي تختم بها رحلتنا:
ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى عـدوّاً له ما من صداقتِهِ بدُّ
وأيضاً:
إذا أنْتَ أكرمْتَ الكريمَ مـلكتَهُ وإنْ أنْتَ أكرمْتَ اللئيمَ تمرَّدا
شعر المتنبي بحرٌ هائجٌ متلاطِمٌ منه يستمدُّ الشعراء وفي أعماقه يغوص النقاد، ومن مجوهراته تُرَصَّعُ العقودُ مُزيِّنَةً النحور والألباب.