زياد خدّاش: لا وجود في زمننا للوركا آخر أو بوكوفسكي أو درويش
كتب عمّار المأمون من رام الله: ما زالت للشعر لذته مع الفلسطيني زياد خداش، المولود في القدس عام 1964. القصيدة لديه مخاض طويل في سبيل الولادة، وكشف جديد يعيد تكوين الشاعر. نصوصه بعيدة عن المبتذل والعام والمشترك للوصول إلى ما هو أصيل ومتفرّد. صدر له ديوان عنوانه «أن تقعي أرضاً ويكون اسمك أماني»، لدى دار «الأهلية للنشر والتوزيع».
بعيداً عن أرضه، عن زهرة المدائن لخدّاش علاقة مختلفة مع فلسطين الأرض- النص، يصف زياد خداش هذه العلاقة قائلاً: «كإنسان، لا أتخيل نفسي مهاجراً منها، أو بعيداً عنها لأكثر من شهر. ككاتب لا أظنني أعتبرها نهاية المطاف أو نهاية الأمكنة. ثمة انفصام واضح في علاقتي مع بلادي. أرفض أن تؤطرني فلسطين في حنين عادي، أو هاجس انتقامي ضيق أو حتى تصفيق شعبوي. لن تجبرني على استخدام كتاباتي لتختال بدمها وتتغنج بشرفها وترقص بجروحها، بينما نصي ينزف ركاكة وابتذالاً. هي ذاتها علاقتي مع الله، كم أحبه وكم أرفضه، كم أستدعيه وكم أنفيه. هي ذاتها علاقتي مع المرأة، كم أحتاجها وكم أهرب منها، كم أحبها وكم أكرهها. في الله وفلسطين والمرأة، تتجـلى متلازمة اغترابي وانتمائي».
معايير النص أصبحت واسعة، كذلك معايير الشعرية. كيف يصف خداش حالة النص الشعري راهناً وما هو معيار ما هو شعري وما هو مبتذل، خاصة مع اتساع وسائل النشر الرقمية وانفتاح الفضاء أمام الجميع؟ يجيب: «الأزمة الكبرى -وأتحدث عن بيئتي الثقافية في رام الله- أن معظم القراء صاروا أدباء. الـ»فيسبوك» دمر المعايير وحطّم السور الذي كان يحمي حقل المعيار. استبيح الحقل الآن، وهناك ألف معيار لتقويم النصوص. ربما يقول قائل هذا جيد إذ يجعل من الحقل حقولاً يانعة ومتنوعة وديمقراطية. أي شخص لم يقرأ في حياته كتاباً واحداً، يمكن أن يمتلك معياراً لمحاكمة نصك وبكل وقاحة ورغبة في إقصائك، ويقول شخص آخر: ليقل هؤلاء المبتذلون ما يشاؤون، في النهاية لا يصح إلا الصحيح».
فلسطين القضية الأرض أنتجت شعراء يحملون همّها،هل يمكن أن يولد ما يعرف باسم شاعر القضية مرة أخرى؟ يقول: «لا نريد شاعر قضية مرة أخرى. محمود درويش ُظلم كثيراً عندما حشروه في هذا السجن، وكان عظيمنا محمود عملاقاً وذكياً حين فهم لعبة الدمار التي نصبت له بحسن نية وبسوئها وهرب من السجن وطار في فضاءات الكتابة. في كل مرة كان يلقي شعراً في أمسية، كانت الحشود تصرخ وتحاول إجباره على إلقاء قصائد نمطية من زمن السجن مثل «أحن إلى خبز أمي» أو «سجّل أنا عربي»، كان محمود يرفض كاظماً غيظه بغضب خفي. كان يعرف أنها محاولة لإعادته مجبراً بسلاسل أشعاره السابقة إلى السجن، كان ذكياً جداً، حين كان يعتذر في معظم الأحيان».
«الربيع العربي» حالة انقلاب، بغض النظر عن النتائج. هل يمكن لهذه البنية الجديدة أن تؤسس لشعرية جديدة أو تخلق أسلوباً جديداً يمكن اعتباره تحولاً في مسار الشعر؟ يجيب خدّاش : «لا أظن أن هذا التحوّل سيؤدي إلى حالة شعرية جديدة. قد يؤثر في بعض مستويات اللغة ونوعية المضامين، لكنه لن يحدث قطيعة مع مرحلة شعرية سابقة مثلما حدث في زمن زوال الاستعمار وتحرّر العالم العربي وترافقه مع الحداثة الشعرية الجديدة، فلن يحفر مساراً جديداً، في الكتابة الشعرية العربية. المسارات الشعرية الكبرى تحتاج إلى مسارات كبرى في الحياة العربية. هذا لم يحدث بعد ويا للأسف. ثمة شخص غيّر قميصه ولبس قميصا مختلفاً برّاقاً فحسب».
التجديد في الشعر قائم على التجريب، ومحاولة اختبار تقنيات إيصال المعنى، كيف يصف الشاعر علاقته مع القصة ومع الشعر؟ وما هي معايير اختياره أسلوب المعالجة الأدبية لموضوع ما؟ يجيب: «لا أسلوب أفكر فيه، لا خطة تسبق نصي، أسلوبي يتكوّن بعيداً عن وعيي. خطتي تولد وحدها، هيب القابلة والطفلة معاً. المهم في تقنيات كتاباتي أن تتعامل بذكاء وفطنة فنية مع أحاسيسي المندهشة وشغفي الذاهل وعدم تصديقي للأشياء التي تحدث حولي. وشعوري بسحرية ما أشاهد وغرابة التناقضات والشروخ التي تكتسح حياتي والحس الفكاهي الذي يسري في طرقي».
ثمة جيل جديد يكتب من داخل فلسطين ويمارس الصنعة الفنية والأدبية داخل فلسطين، فكيف يصف نشاطهم هذا وهل من اختلاف في شعرية الداخل وشعرية الخارج؟ يجيب خدّاش المقيم في رام الله: «لدينا حركة شبابية شعرية مختلفة، تحاول أن تقتنص تميزها في غابات التشابه والتكرار، بدايتها كانت مع الفيسبوك. المختبر الضروري وورشة الكتابة المستمرة على حدّ قول أحد هؤلاء الشبان «عرفات الديك». الجميل في هذه التجارب توجهها الواعي والعنيد نحو الذات بكل ما يرتبط بذلك من بوح شخصي وحميمية مفلسفة بلغة راقية وإيروسية عالية بعيدة عن المبتذل والمكرر من الصور».
ثمة كشاعر وقاص علاقة مميزة بينه وبين المرأة «الجسد-الروح» تتضح في إنتاجه، كيف يصف علاقته مع النص ككائن حيوي؟ يجيب شاعر «شتاء في قميص رجل»: «أحب نصوصي وأكرهها، مثل أبناء شرعيين جداً، ولقطاء أحيانا أخرى. أحبهم بحواسي كلها، أشمّ نصي وأتذوقه بلساني، وأعرف طعم كل نص، حتى المالح الذي يجعلني أتقيأ أعرفه. علاقتي مع نصي انتمائية واغترابية في آن واحد. لو صادف أن رأيت كتابي الأول «موعد بذيء مع العاصفة»، لمزقته فورا، إذ يشبه التشوّه الذي أخفيه قرب سُرتي. لو أن أحدا كشف عن بطني فجأة لقتلته. أتوق إلى ولادة نص جديد مثل أب جديد، وحين يأتي الطفل، أهديه إلى البرية لتربيه وتحبه على طريقتها».
يقول أندريه جيد: «إن قراءة رامبو ونشيد مالدورور السادس يجعلانني أخجل من مؤلفاتي» ما تعليق خداش على هذا القول؟ وهل يمكن أحداً في العالم العربي أن يتربّع على عرش الشعر؟ يردف قائلاً: «ذهب زمن ملوك الشعر. الجنرالات المتوّجون بجدارة، العظماء الذين ننحني لهم ونخجل من سطوع العتمة على أكتافنا وجنون الشمس على أكتافهم، لم يعد ثمة لوركا في زمننا، أو بوكوفسكي، أو محمود درويش. لا أقول هذا سيّئ أو جيّد، لا أطلق تقويما، لا أمدح، لا أتذمر، أقول فحسب إن زمن العمالقة انتهى، وإن هناك عمالقة صغارا، فالجمال الفائق للشعرية تغيّر».