المسيحيون السوريون… الجذور التاريخ والهجرة

لورا محمود

تعتبر سورية بالنسبة إلى المسيحيين الأرض التي انطلق منها التبشير المسيحي إلى كافة أنحاء العالم، فهذه الأرض هي التي احتضنت الكنيسة الأولى منذ عهد تلاميذ السيد المسيح، ومنها انطلق بولس الرسول حيث تحتضن سورية مجموعة من الكنائس هي الأقدم في العالم، ويحتفظ عدد من سكانها باللغة الآرامية التي تحدث بها السيد المسيح، وشكل المسيحيون في سورية على مرّ التاريخ نموذجاً للقدرة على الاندماج في المجتمع والتعايش مع كافة الثقافات والأديان.

اليوم يقف المسيحيون إلى جانب مكوّنات المجتمع السوري الأخرى أمام تحديات جديدة فرضتها الأزمة السورية، ولكن تحديات من نوع خاص ألقت بظلالها ليس على المسيحيين في سورية فحسب، بل على الوجود المسيحي ككلّ في الشرق الأوسط.

لطالما تميّزت الكنائس المشرقية عن الكنائس الغربية في عدة محاور منها: حفاظها على الهوية الثقافية القديمة، وإصرارها على القيام بدور الداعم للهوية القومية لمجتمعاتها، وهذا ما كانت ترفضه الكنائس الغربية مما أثار جدلاً واسعاً بين مسيحيّي الشرق ودول الغرب حول كيفية الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق.

ومع بداية الثمانينيات تنبّه الفاتيكان إلى خطورة إفراغ الشرق من المسيحيّين، لأنّ ذلك سيفقد الكنيسة جذورها الأولى في العالم، وسيفقدها أيضاً الدور الذي يجب أن تلعبه في محاولة إحلال السلام العالمي، فبدأ الفاتيكان بالحديث عن ضرورة تحسين أوضاع شعوب العالم الثالث والحفاظ على الأمن والاستقرار فيها، لأنّ هذا هو الضامن الوحيد لتجذّر المسيحيّين في الأرض التي ولد فيها السيد المسيح، والتي نمت فيها الكنيسة الأولى.

وفي سورية كان للمسيحيين دور أسياسي وفعّال في بنائها، كيف لا؟ فهناك عائلات دمشقية عريقة ساهمت في النمو الحضاري والتاريخي لسورية وكانت تحظى بالسلطة والثروة والمعرفة، مما جعلها تؤثر بشكل موقت أو دائم على المجتمع. وقد اهتمّت هذه العائلات بجميع المجالات، بما فيها الصالح لعام، فأسّسوا الجمعيات الخيرية والمستشفيات والمدارس وغيرها. وعبر التاريخ تمكنت بعض هذه العائلات أن تجاري الأوضاع السياسية والاجتماعية الجديدة، وتشارك بشكل فعّال ومفيد في تنفيذ الخطط والبرامج الجديدة للدولة السورية، مما جعلها تحظى بنفوذ نسبي في مجال التجارة والصناعة والاقتصاد.

ومن المؤكد أنّ نخبة المجتمع، التي يعود انتماء غالبيَّتها من المسلمين والمسيحيين إلى «العائلات الكبيرة»، كان لها الدور القيادي الحاسم في تنفيذ الأهداف التي أعلنها الزعماء الوطنيون الذين مرّوا على سورية، تبعهم في ذلك مجمع المثقفين والمفكرين السوريين.

و»العائلات الدمشقية القديمة»، التي سكنت في دمشق شاركت في مختلف المجالات والنشاطات المهنية والإدارية في البلد. فمنها المهنيون والحرفيون والأطباء والصيادلة والمعلمون والتجار والصناعيون والموظفون في الدولة أو في القطاع الخاص وفي المنظمات الدولية والسفارات، ويبرز بين هؤلاء نخبة ممتازة تلقى احترام الجميع وتتوارث من جيل إلى جيل القيم النبيلة التي جعلت منها ما يُسمى بـ«العائلات المسيحية الدمشقية الكبيرة».

المسيحيون المهاجرون إلى سورية

استقبلت سورية موجات متتالية من المهاجرين المسيحيين الغرباء الذين تعاقبوا عليها منذ بداية القرن العشرين، وكان هؤلاء المهاجرون الجدد إلى سورية من الأرمن الذين قدِموا من تركيا ما بين عام 1905 و 1915، والآشوريين والكلدانيين الذين قدِموا من العراق خلال العشرينات والثلاثينات، ثم العرب المسيحيين اليونانيين الذين لجأوا إلى سورية في الثلاثينات نتيجة ضمّ الدولة التركية للواء اسكندرون وأنطاكية وهي بالأصل أراضٍ سورية . كما جاء الروس البيض والجورجيون الهاربون من الثورة البلشفية في روسيا القيصرية عام 1917.

وقد استقبلهم السكان المحليون استقبالاً حسناً، حيث اتصف المهاجرون الجدد بالنزاهة والجدية في العمل، وخاصة في الأعمال الحرفية اليدوية. كما امتهن بعضهم المهن الحرة: أطباء، معلمون، محامون، تجار، وتميّز بعضهم الآخر في الوظائف الرسمية، فكان منهم موظفون كباراً في الدولة، وضباط في الجيش ونواب في مجلس الشعب، إضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين، من مسيحيين ومسلمين الذين شُرِّدوا من ديارهم في عامي 1947 و 1948 نتيجة للاحتلال «الإسرائيلي» وقيام الدولة العبرية. وقد لجأ جزء من الفلسطينيين المسيحيين إلى دمشق، خاصة من كان له رباط عائلي مع عائلات دمشقية.

منذ القرن الثامن عشر، وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين، نزحت عائلات مسيحية من القرى السورية إلى دمشق. وقد جاء أولها من حوران في جنوب سورية ومن مدن الساحل والمدن الشرقية السورية وسكنوا في «الحيِّ المسيحي» في دمشق. وقد سمَّاه كذلك جميع المؤرخين منذ تاريخ الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي حيث يقع هذا الحي داخل سور دمشق القديمة ويضمّ حارات القيمرية، باب توما، الطريق المستقيم، باب شرقي. كما ضمَّ في وقت لاحق حي القصاع وبرج الروس وقسماً من حي العمارة أو مسجد الأقصاب، المسمّى أيضاً «مزَّ القصب».

بعد ما سُمّي بـ«الربيع العربي» الذي نالت منه سورية النصيب الأكبر من العنف والدمار فتح الغرب أبوابه لهجرة المسيحيين، وكانت هذه مؤامرة بحدّ ذاتها، إذ لم يُتخذ ايّ موقف او قرار في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمصلحة المسيحيين، فكلّ همّهم إخراج المسيحيين من الشرق إرضاء لـ»إسرائيل»، وبعد أن أصبح للتكفيريين دور في سورية بدعم من الغرب ودول الخليج أصبحت الهجرة أمراً واقعاً، خاصة بعد كلّ ما تعرّض له المسيحيون من قتل وخطف وكلّ ما تعرّضت له الأماكن المقدسة المسيحية من تهويد ودمار.

ويذكر أنّ هجرة المسيحيين ليست حديثة العهد بل تمّت على مراحل متتالية منذ مطلع القرن التاسع عشر، فقد كانت الخيار الوحيد للعديد من العائلات المسيحية في دمشق نظراً إلى عدم الاستقرار الأمني للأشخاص والممتلكات نتيجة للحروب والخلافات القبلية والعشائرية والانتماءات السياسية وغيرها والتي كانت تحصل بتحريض، أو بموافقة ضمنية، من السلطان العثماني. كما أنّ الاضطرابات التي حصلت بعد انسحاب الجيش المصري من سورية بقيادة ابراهيم باشا عام 1840 كانت دافعاً لأولى الهجرات المكثفة إلى مصر. تلتها بعد عشرين عاماً هجرة كبيرة أخرى أيضاً إلى مصر بعد الحوادث المؤسفة في عام 1860. وكانت هذه الهجرة لأسباب دينية مرتبطة بأسباب سياسية، وهي الوحيدة من نوعها في مسلسل الهجرات حتى يومنا هذا.

وفي أواخر القرن التاسع عشر حدثت هجرة ثالثة إلى مصر، وكانت هذه المرة لأسباب اقتصادية وسياسية نتيجة لاضطهاد المفكرين والكتاب العرب الذين بدأوا بالنهضة العربية ضد سياسة «التتريك» المكثفة التي انتهجتها الدولة العثمانية في البلاد العربية الواقعة تحت سيطرتها المباشرة.

وكانت الأسباب الاقتصادية ولا زالت حتى يومنا هذا هي الدافع الأساسي للهجرات التي شهدها القرن العشرون إلى بلاد أوروبا وأميركا. فقد هاجر مسيحيون من دمشق منذ بداية القرن العشرين إلى فرنسا وبلجيكا، وكذلك إلى الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية. وقد تسارعت هذه الحركة في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين. وأيضاً، بعد هدنة قصيرة تبعت انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، عادت حركة الهجرة المكثفة في أواخر الخمسينات وخلال الستينات إلى لبنان. تبعتها في أواخر السبعينات وطوال الثمانينات هجرة هامة إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى